اخفقت في يوم 23/7/1999 أحدث جولات المفاوضات التي تنظمها الهيئة الحكومية للتنمية الايغاد اختصاراً بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان. غادر المشاركون نيروبي وأصدروا البيانات المتوقعة. وبما أن الاخفاق كان متوقعاً فإن المراقبين لم يغادروا العاصمة الكينية وهم يعانون من الصدمة أو خيبة الأمل. عاد "شركاء الايغاد" الذين توفر دولهم مظلة تشجيع وتحفيز للفرقاء الى بلادهم وهم يركزون على بصيص الضوء الذي يتمثل في اتفاق الجانبين على تكوين لجنة او سكرتارية لتقريب وجهات النظر وتعيين مندوب خاص يقوم باتصالات "مكوكية" بين الطرفين المتحاربين. الأمل هو ان تكفي هذه الاجراءات لتنشيط عملية البحث عن السلام وتفادي "البيات الشتوي" الذي أبتليت به في الفترات الطويلة الممتدة بين الجولات المكثفة. وهذا بلا ريب انجاز وخطوة الى الأمام، إلا أنه شكلي أو إداري أو تنظيمي. فالجانبان لم يتفقا على القضايا الرئيسية المطروحة مثل وقف اطلاق النار وعلاقة الدين بالدولة وحق تقرير المصير ونظام الحكم الاتحادي أو الكونفيديرالي والديموقراطية. وتمثل هذه لب "اعلان المبادئ" الصادر عام 1994 والذي وقّع عليه الفريق عمر البشير عام 1997 من دون أن يعتبره ملزماً! تعاني جولات الايغاد من خلل جذري من شأنه أن يفضي الى اخفاق المحاولة التالية ايضاً اذا لم يعالج. فهي تحاول ان تحل نزاعاً معقداً ودموياً من دون ان تأخذ في الاعتبار واحداً من أهم العوامل في الصراع. وقد وضع الأميركيون اصبعهم على الرقم الناقص في المعادلة. فالقرار الرقم 109 الذي اجازه الكونغرس يوم 1/7/99 يصور بدقة حقيقة الموقف في السودان إذ يقول: "ان الغالبية العظمى من المسلمين في السودان لا تؤيد سياسات متطرفي الجبهة الاسلامية القومية، ولا توافق على تسييس الاسلام. وقد استهدفت حكومة الجبهة الاسلامية القومية بشكل خاص المسلمين المعتدلين". ويدل هذا الى معرفة وثيقة بالخريطة السياسية السودانية. بالمقارنة فإن حسابات وتقديرات "الايغاد" تبدو مختلفة، فهي تتجاهل "الأغلبية العظمى من المسلمين في السودان" والنظام الديموقراطي الذي ارتضته هذه الأغلبية عند اسقاط نميري عام 1985 واسترداد الحكم النيابي عام 1986. تعترف "الايغاد" بحكومة الجبهة الاسلامية القومية ممثلاً وحيداً وفريداً وتستبعد من طاولة المفاوضات الحزبين الكبيرين وتنظيمات اليسار والنقابات والتنظيمات "الجهوية" المعارضة. وسيلازم الاخفاق "الايغاد" جولة بعد الأخرى طالما أصرت على الانطلاق من خلل أساسي يتصل بتوازن القوى الفعالة في السودان. قد يقال: تتعامل "الايغاد" مع فريقين متحاربين اعترافاً بأمر واقع. وهذه حجة مردودة، لسببين اثنين: فالقوى التي تمثل الأغلبية العظمى من المسلمين وغير المسلمين في السودان لديها الآن فرق مقاتلة في شرقي السودان، وهي تنسق مع مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير السودان استناداً الى مقررات مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا حزيران/ يونيو 1995 التي لم تكن "تخديراً موضعياً" أو بحثاً عن حلول جزئية بل وضعت الأساس لسلام دائم وعادل في السودان، وهي تتسق مع "اعلان المبادئ" الذي ترتكز عليه مبادرة "الايغاد". فضلاً عن ذلك فإن النزاع في السودان ليس عسكرياً فحسب. هناك صراع يومي مرير بين ميليشيات واجهزة الحزب الحاكم وبين المدافعين عن قيم المجتمع المدني وحكم القانون وحقوق الانسان. بدأ هذا الصراع قبل مبادرة الايغاد وبه الأرضية الفكرية والعملية التي سوف تشكل عند النصر القواعد لترسيخ الديموقراطية واستخلاص الدروس من الكابوس الذي قوضها. تتناسى مبادرة الايغاد هذا البعد تماماً عندما تستثني من يمثلونه من المشاركة في المفاوضات. وبوسع المرء ان يزعم ان مبادرة الايغاد تتنكر حتى لاعلان المبادئ الذي تستهدي به عندما تغض الطرف عن "الحرب الأخرى" التي يشنها النظام الحاكم على مقاومة اغلبية المواطنين في المدن الكبرى في السودان الشمالي، وهي مقاومة سبق ان صمدت في وجه انقلابين عسكريين. خلاصة القول ان اخفاق أحدث جولات مبادرة "الايغاد" يعني ان تستمر الحرب الأهلية ويعني ان تطل المجاعة برأسها من جديد. سيسعى المندوب الخاص وسكرتاريته للإعداد لجولة جديدة ولتقريب وجهات النظر. بيد ان التحرك سيتم في الاطار الحالي المرسوم، وهو اطار ناقص ومختل. ولن يفضي - مهما خلصت نوايا المنظمين - الا الى كبوة أخرى... متوقعة. فهل تستدرك دول القرن الافريقي الأمر؟ وهل يتبين "شركاء الايغاد" خط سير المبادرة التي يمولونها؟ * باحث سوداني في مركز وودرو ويلسون في واشنطن.