حتى لو كان اقتراح رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك ارجاء الانسحاب الثالث من قسم من الضفة الغربية وفقاً لمذكرة واي ريفر اقتراحاً "منطقياً"، كما يزعم انصاره ومن هم على استعداد ل"تفهم" وجهة نظره وطمأنتنا الى ان الرجل صادق ومخلص في سعيه الى مواصلة مسيرة السلام مع الفلسطينيين ومع السوريين، وقبول تحليله القائل بأن تنفيذ الانسحابين الأخيرين من الضفة الغربية قبل الدخول في مفاوضات الوضع النهائي من شأنه ان يعرض للخطر المستوطنين اليهود هناك لأنهم سيجدون انفسهم على تماس مباشر مع الفلسطينيين وقوات امنهم، فإن هذا "المنطق" أحادي الجانب خال من أي استعداد للتعامل بندية مع الفلسطينيين وتمكين قيادتهم من اظهار ثمار السلام لشعبها وفقاً للاتفاقات الموقعة، ومنها "واي ريفر" الذي قضى الرئيس الأميركي بيل كلينتون اياماً وساعات طويلة في العمل على مساعدة الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي في التوصل اليه. "منطق" باراك يقول ان الانسحابات من الضفة يحتمل ان تفتح المجال لهجمات على المستوطنين لأن الجيش الاسرائيلي لن يكون هناك لحمايتهم من هجمات عليهم، والأمر نفسه قد يحدث نتيجة الانسحابات، والخطوات الأخرى "المؤلمة" التي ستنفذ نتيجة لمفاوضات الوضع النهائي، فلماذا لا يختصر الألم ويجري تجرعه مرة واحدة... في النهاية، بدلاً من مرتين، الآن وبعد انتهاء المفاوضات النهائية؟ وفي وسع باراك، لو شاء، ان يقول ايضاً ان الجدول الزمني ل"واي ريفر" لا يعجبه لأن سلفه رئيس الوزراء السابق بنيامين نتانياهو قبل به وهو يعلم انه ما كان ينوي المضي في تنفيذ "واي ريفر" اصلاً، أما هو - باراك - فينوي تنفيذ الاتفاق ولكن بعد تعديل جدوله الزمني للسبب الآنف الذكر. لقد قام منطق اوسلو كله على التدرج والمراحل كي يعتاد الناس في الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي في صورة متدرجة ايضاً على طبيعة التعايش السلمي وإمكان تحقيقه، اذ لم يكن ممكناً دفن كل الاحقاد التاريخية والكراهية المتبادلة دفعة واحدة. وكانت وتيرة التقدم خطوة خطوة في تنفيذ الاتفاقات وصفة جيّدة ايضاً لبناء الثقة المتبادلة التي كانت ستبلغ مستوى جيداً لولا امرين اخطرهما استمرار غول الاستيطان في قضم الأراضي الفلسطينية، والثاني اعمال العنف التي نفذتها خصوصاً حركة "حماس" اما بسبب اغتيال عدد من قادتها العسكريين او احتجاجاً على ذلك الغول الاستيطاني الشرس. ان اقتراح باراك "المنطقي" في ظاهره هو في واقع الأمر "املاء" ممزوج بغطرسة القوة مقترن بعزم واضح على ممارسة الابتزاز اذا رفضه الفلسطينيون. ولقد صدرت اشارات كثيرة في وسائل الاعلام الاسرائيلية تدل على ان باراك يعتزم التشدد مع الفلسطينيين اذا رفضوا اقتراحه، ومطالبتهم بخطوات "تبادلية" كالتي كان نتانياهو يصرّ علىها ليجعلهم نادمين على رفض افكاره. ان مجرد القول ب"التبادلية" هو تجنٍ على التاريخ والواقع. ذلك ان الشعب الفلسطيني فقد كل شيء تقريباً للاسرائيليين بالقوة والاكراه، وهو اذ يقصر مطالبه الآن على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ويعترف باسرائيل دولة الى جانب دولته التي يسعى الى بنائها على نحو 20 في المئة فقط من فلسطين التاريخية، انما يقدم لخصمه وجلاده فرصة تاريخية لإنهاء صراع مدمّر لا راحة فيه ولا استقرار لأي من الطرفين، ان لم يحسم بعدل وعلى اساس من الثقة التي يبدو ان باراك سيبددها ب"منطقه" الأعوج.