كان زميلنا الياباني في قسم الاقتصاد محطّ اهتمامنا جميعاً. كان صامتاً ساكناً معظم الوقت.. يعيش مع نفسه وافكاره.. وعشرات المقالات.. التي كان ينقلها بخطه الدقيق.. ويستظهرها استظهاراً.. الكترونياً عجيباً يفرغه - بسهولة عجيبة - في اوراق الامتحان. وكنا اكثر ما نكون اهتماماً به.. عندما يقطع حبل الصمت.. ليسأل سؤالاً او يعلّق على فكرة من افكار المحاضرة. كنا نشفق عليه كثيراً عندما كانت تصدر عنه تلك السَلَطة اللفظية، وتبدأ تلك، الغمغمة ترنّ في ارجاء القاعة تحت سياط انظارنا المحملقة.. التي تحاول ان تقرأ حركة شفتيه لنفهم منها ما لم نستطع فهمه من صوته المبهم. كان زميلنا.. ذكياً لمّاحاً مجتهداً.. دمث الخلق.. ومع ذلك فقد كان يعيش، عزلة فرضها عليه، الحائط اللغوي المضروب حوله. ولو لم تكن تسود، مجموعتنا، روح من التآلف والتعاون، لقضى معظم وقته في ركنه المفضل في غرفة القهوة.. ولانزلق الى عزلة كاملة. تذكرت الزميل الياباني عندما قرأت عن المشكلة "اللغوية" التي تعاني منها اليابان.. في كتاب "الياباني" لمؤلفه "ادوين ريتشور".. فاليابان.. كما يذكر المؤلف تعاني من غربة لغوية.. مزمنة. وبالطبع، اذا كانت تلك - الغربة، تعتبر - نسبياً - مشكلة هينة.. لدولة "قارية" تتوفر لديها الموارد الطبيعية والاسواق فهي لا شك.. قضية بالغة الحساسية.. بالنسبة لدولة عالمية.. كاليابان.. تكاد تعتمد اعتماداً كلياً على العالم الخارجي - موارد واسواقاً، ويتوقف أمنها السياسي والعسكري والاقتصادي على حُسن نيات الآخرين والقدرة على "العبور" اليها.. بعقولهم وعواطفهم. ان جزءاً غير قليل من "المعاناة" اللغوية لليابان.. يعود الى خصائص اللغة اليابانية نفسها"، فاليابانية - كما يشير المؤلف - لا تنتمي الى "عائلة لغوية كبيرة كالعائلة "الهندية - الاوروبية" والتي يسهل عبور الجسور اللغوية بين اعضائها، وحتى بالنسبة للغات ذات الصلة العائلية باليابانية - كالمنغولية والكورية - فان الزمن قد أوهى العلاقة بينها.. بالاضافة الى انه ليس ثمة ميزة دولية كبرى في تلك القرابة اللغوية. الهيكل اللغوي ل.. اليابانية مختلف جداً عن معظم لغات العالم مما يجعل التعلّم المتبادل بين اليابانيين وغيرهم اكثر صعوبة.. ويفسر الى حدّ ما التحوصل.. اللغوي الياباني. ان الذي يثير الاعجاب والدهشة هو نجاح العملاق الياباني في ان يتجاوز الفجوة التكنولوجية.. بينه وبين الدول التي سبقته. بل ويعكسها - احياناً - لصالحه. رغم تلك الفجوة اللغوية التي تعزله عنها فكراً وثقافةً واتصالاً. استطاعت تلك اللغة - رغم المشاكل الموروثة في بنائها - ان تستوعب التفوق التكنولوجي الياباني وتتجاوب مع المعجزة الاقتصادية التي حققها الياباني في جزره - المحاصرة الضيقة، وتثبت ل"الانهزاميين" - بعد الحرب العالمية الثانية - ان دعوتهم الى التخلي عنها والقائها في المحيط الهادي - كانت دعوة تبعية تافهة. ان الامم تنهض بلغاتها وتقعد بها. ولعل، في المثال الياباني درساً لاؤلئك الذين يسارعون الى تفسير الهزيمة والاحباط.. والتخلف في عالمنا العربي بأنه ظاهرة لغوية وينشرون على حبل اللغة العربية.. غسيلنا المتسخ. لقد استطاع الانسان الياباني ان يشمخ ويتفوق وراء "خندقه" اللغوي.. فغدا عملاقاً.. اقتصادياً.. وتكنولوجياً. حتى ولو كان "مغمغماً" معقود اللسان.