ثمّة في ذاكرة النص الذي تكتبه موريسون نصٌّ آخَر يلوح أحياناً كأنّه النصّ الأصل وما يليه تداعيات له وأطلال. ففي البدء كانت "هافن"، بيد أن توني موريسون تحكي قصة "روبي". و"هافن" أقامها محرّرون كانوا يقفون على أقدامهم، غير أن السّرد يتتبّع قصة الذين أقاموا "روبي" بعد أن أخذوا يزحفون على بطونهم. وفي نسيج الرواية ما يعزز على الدوام صورة ماضٍ رؤيويّ لا يبرح استحضاراً كأنّه ليتعارض مع ما آلت اليه الأمور وليقيم على حدّ التناقضات المندلعة بينهما ايقاعَ عالمٍ له وجه فهدٍ أسود هو وجه موريسون ذاته. ولا يتبدّى شبهُ انفصام النصّ في زمانين عن مشكلةٍ سرديّة تؤرقُ السياق. ويُعزى ذلك الى كمون "هافن" وناسها في أحلام ناس "روبي" وهواجسهم وانفعالاتهم وأقدارهم المأسويّة، حتى ان اندفاع بعضهم الى اقتحام الدّير بقصد القتل نُسب الى علّة الخوف من تكرار خيبة "سقوط هافن على بطنها بعد أن كانت واقفة على رجليها" هي الأخرى. وهو مشهد يستهلّ الرواية ولا يلبث أن يتلاشى تحت وطأة تعدد الشخصيات التي كأنّها الظلال المهشمة لحلم يفترس حاله. الأمكنة ذاتها في "فردوس" تتّشح بهلامية اختلال الموقع واضمحلال جهاته الأربع. فلو قيل أن مدينة "روبي" في أوكلاهوما، إلاّ انها واقعة "وسط اللامكان". ولو قيل أن الدير على بُعد سبعة عشر ميلاً منها، إلا انه "قاتم ومنفصل عن أرض الله". فالمكان هنا كناية عن "مدى متّسع للروح والجسد ومساوٍ لحريّة بلا حدود" كأنّه ليفسح المجال رحباً كي يظل طليقاً من واقعيته وليتخذ سماتٍ نفسية توحِّد شتات الوجوه الهائمة بحثاً عن ضوء النهار. والوجوه نسائيّة، تربَّعت أسماءُ صواحبها فوق الفصول توريةً لحكاية الرِّجال "المطارِدين" أيضاً. نسوة هائمات من قسوة. "محطمات، خائفات، ضعيفات وكاذبات... قادمات من فوضى وخداع وتهوُّر...". وثمة لعبة "عقد الضفيرة" بين الماضي والحاضر تلعبها موريسون هنا عبر تلك الأسماء. فهي وان وسمت فصلين بأسماء والدتين لاثنتين من اللواتي تحكي قصصهن، فلكي تمعن في تجديل تعارض الأزمنة في شبه بُعدٍ ملحمي لما تريد أن تزأر به. ف"غريس" تعني نعمة سماوية عنوان فصل يحكي قصّة ابنتها جيجي المتسكّعة الشاردة. و"ديفاني" تعني الهيَّة عنوان آخر يحكي قصّة ابنتها يالاس المخدوعة الملقاة والغارقة في نشيج ألم في قلب الظلام. وهنّ اثنتان من أخريات مثلهن قادتهنّ أقدارهنّ الى بيتٍ "كان يبدو مطبوعاً بغياب الذكور المبارَك، كمجالٍ محميّ، من دون صيّادين". "روبي" وحدها تصدَّرت الفصل الأوّل من دون النساء، غير أن قصّة تلك المدينة التي أسَّسها السود ليقطنوها دون سواهم لا تُروى فيه، بل يُستهل بفعل القتل الذي لن تُفكّ رموزه إلاّ في الفصلين الأخيرين حيث تشدّ موريسون بقوَّةٍ خيوطَ سردها المعقّدة ليتبدَّى النص عن نسيجٍ مُتقن تمّت صياغته وفق أسلوب مميّز. وروبي أقيمت بعد انهيار "هافن" التي لها دائماً في النصّ مكانة الأصول المجيدة لوقفة أجداد أحرار "لم ينحنوا أمام أحد، ولم يركعوا إلاّ أمام خالقهم". بنوها وأقاموا وسطها فرناً من الآجر أرادوه رمزاً لانتصارهم، "كان يطعمهم ويجسّد في الوقت نفسه ما أنجزوه". هكذا، تصبح روبي في الحكاية بيئة أصداء مرتدة لفردوسٍ مفقود. أقامها محاربون قدماء أحبّوا ما كانت عليه هافن "ونقلوا هذا الإخلاص، رعوه وغذّوه وقرَّروا أن يبدأوا من جديد... فكّكوا الفرن ونقلوا قرميداته وبلاطة موقده... وثبّتوا اللوحة المعدنية وصقلوا وجلوا الحروف البالية للعبارة التي ابتكرها الجدّ زكريّا اسم يتناغم مع ماضٍ رؤيوي أيضاً لتكون قاعدة لحياةٍ هادئة ونابضة: "كونوا غضبة الله". ولا ينعقد في قلب هذه العبارة التباسٌ كبير وحسب، وإنما اللغز الذي يمد عصب الرواية بتوتّر بالغ يودي بقاطني روبي "الى خيانة كلّ شيء". كانت العبارة ردّاً صاغته حكمةُ زكريا على "عملية الرفض الحقيقية التي صيغت بكلمات خرجت من أفواه رجال موجهة الى رجال آخرين، رجال شبيهين بهم في جميع النقاط فيما عدا واحدة". كان الأوَّلون بيضاً، والآخرون موكب من "تسع عائلات كبيرة قامت بالرحلة الأصلية وتابعت سيرها لكي تُؤسِّس هافن". كان ردّهم "النبذ" و"أيّ شيء يريد أي فرد أن يعرفه عن مواطني هافن أو روبي يجده في تفرُّعات ذلك الرَّفض بين حالاتٍ كثيرة منه". لم يكن أمر زكريا "موجهاً الى المؤمنين السود، بل تهديداً موجّهاً الى أولئك الذين رفضوهم". صرخة مؤمن غاضب كان يعني: كونوا أيّها البيض السبب الذي يُغضب الله". لكنّ شباب روبي، مبتعدين عن حكمة السلف، كانوا يريدون "طريقة جديدة وأشدّ رجوليّة للتصرّف مع البيض. ليس على طريقة الأجداد، بل نوع من الشيء الأفريقي الذي يطفح بالكلمات الجديدة، وبتركيبات جديدة للألوان وقصّات شعر جديدة". لذلك أرادوا التعبير وفق طريقتهم، وغيَّروا النقش الأثري على غطاء الفرن ليقول الآن: "نحن غضبة الله". و"حرب" هو العنوان الذي اختارته موريسون لنصّها الروائي - أو كتبته بعصَب تلك الكلمة - لكنّ استُبدِل ب"فردوس" بناء على طلب الناشر الهاجس بمتطلّبات السوق. وفي كل حال هو "فردوس" موهوم ليس إلاّ بيئة حروب لا تندلع ولا تنتهي لكنّها قائمة على الدوام. حرب النساء على رجالٍ أجلاف يريدونهن فريسة مهملة. وحرب جيل جديد: "دعونا نعيش" على جيل آباء: "الحلم والعمل". وحرب عزلة عن مجتمع لا أمل منه. وكلّها حروب خاسرة. فالنساء ينتهين في رعاية راهبة سابقة كرّست نفسها لله الحيّ ثلاثين سنة "طقطقت كبيضة دجاجة عندما التقت بالرَّجل الحيّ" وانتهت بعارٍ "يتلألأ كالجمر في نار ميتة" لتعيش "الهدوء البارد لغضب الربّ" في ديرٍ مهجور ستُلقى عليه تبعات اللعنة التي حلَّت على روبي. والمحرَّرون الذين أرادوا مدينة على صورة حلم حوَّلوها الى "مكان مجهول ومتخلّف يحكمه رجال لديهم الوقاحة الكافية ليقرّروا من يستطيع أن يعيش ومن لا يستطيع". صدَّعت وحدتهم الصراعات، وباتوا ضحيّة السمّ الذي تكتَّلوا ذات يوم لنبذه. الحرب الحقيقية هي التي تشنّها موريسون ذاتها على الجميع دون طمعٍ بهدم أسوار أو فتح قلاع. فنصّها مشحون بطاقة غضبٍ تم التحكم بها وفق إيقاع العملية الإبداعية وجمالياتها. فلا تنفث الديفا السوداء غضبها في مِحراقٍ واحد وإنّما تنفخه في ملابسات الوضع وتعقيداته كأنها لتقاتل من أجل تخطيه. ولا تريد في حالة التوتّر هذه هيمنة صوتٍ روائيّ شارح ومُرشِد وسط الخضمّ، إنما تعدد سردي يحاول التقاط "الإحساسات المختلفة للعُقدة" كما تبوح بها اختلاجات التصدُّع الروحيّ للشخصيات البارزة على كثرتها. وأنّه لمن التعسُّف مقارنة "روبي" موريسون ب"ماكوندو" ماركيز، وتالياً تصنيف أدب الأولى في باب "الواقعية السحريَّة". أو الدلالة باضطراب انتظام السَّرد وتشابك الأصوات وتكسُّر الزمن وحضور النَّفَس التوراتي للقول بتأثير فولكنر. أو حتّى الإشارة الى صراع العائلتين مورغان وفليتوود والصياغة الملحمية لكثير من العبارات لتأكيد الدمغة الشكسبيرية، فكلّ هذا التناص يتمّ صهره في عالَم موريسون "الملعوب من عتمة زنوجة" لكنّه متشبع بحلم صباح. فهذه المزدانة بنجمة نوبل تلعب الأدب "بلذَّة من غير إحباط" على ايقاع ارتجال هو من روح "جازٍ لغويّ" لا يقصّر عن التماهي بروحِ الآخرين ليتخطّاهم على قاعدة إنسانيّة تتخطى بدورها العِرق من دون المراوحة في نفيه "فالنفي هو من العِرق أيضاً". يتجلّى ذلك في عبارتها التي كثيراً ما تبدو وكأنّها تلتهمُ اللقطة الشاعرية التهاماً بإشباعٍ تعبيريّ يحقق توازناً عالياً بين الحسية والشعور. صور أدبية إنّما مضمَّخة بالمشهد البعيد الواضح الجميل كأنّها تعضّ اللغة إنما بأسنانٍ من تحقُّق إنساني رافض لكل ظلم. ووجع توني موريسون كبير يستقي من تخوم عالية تعي فيها تماماً أن "تلك الأفريقانية، وقد جرى تقديمها على أنها فظّة ومتوحشة، هي التي تُهيّء المشهد والميدان اللذين سيقدم منهما جوهر الهوية الأميركية". تقول ذلك موريسون في احدى محاضراتها لا لتُصَنَّف في الجانب الآخر. فها هي تتساءل في روايتها الأخيرة عن المصير الذي آل اليه مواطنو روبي: "كم تستطيع مهمة نظيفة ومباركة لهذا الحدّ أن تلتهم نفسها وتصبح العالَم الذي هربوا منه؟" ولا تلبث أن تجيب في وقتٍ لاحق في إدانة صريحة لهم "يظنون أنهم أكثر خبثاً من الرجل الأبيض بينما هم في الحقيقة يقلدونه". ففي أي جانب تقف موريسون غير الجانب الإنساني الصرف المُنقّى من كلّ غرضٍ عِرقي؟ * صدرت عن دار ورد للطباعة والنشر، دمشق. ترجمة: علي باشا. راجع النص عن الأصل: حنا عبود. الطبعة الأولى 1999.