عدت حديثاً من زيارة استمرت ستة أسابيع الى لبنان وسورية فعمدت اثناءها، كما في زياراتي السابقة الى مختلف البلدان العربية، الى تسجيل ملاحظات وانطباعات حول الواقع العربي الاجتماعي والثقافي بشكل خاص. من هذه الملاحظات التي سجلتها حديثاً ما يتعلق بظاهرة كنت تنبهت اليها في الماضي وتعمقت قناعتي بتزايد رسوخها في الحياة العربية، ما يستدعي التأمل بها وتحليلها. أشير بهذا الى ظاهرة الولع بالغناء والرقص والإقبال عليهما بنهم قد يكون منقطع النظير. قد لا يكون في الأمر جديد، إذ يستطيع المطلع على تطور الحياة الثقافية العربية ان يثبت رسوخها في الماضي البعيد كما في الحاضر. ولكن يبدو لي ان هناك حالياً ميلاً بارزاً وواضحاً وانشغالاً حتى الهوس بمختلف وسائل التسلية والطرب على حساب النشاطات الأخرى، خصوصاً السياسية والثقافية منها. أقول هذا وإن كنت قد كتبت مقالة سابقة قبل سنتين تحدثت فيها بإعجاب عن الجوع الذي لمسته في سورية للمشاركة في الحياة الثقافية العامة. ربما يكون كلاهما صورة لواقع الحال. يبدو لي ان الشعب في مختلف البلدان العربية ينصرف عن النشاطات السياسية والثقافية، ويقبل بدلاً من ذلك بشغف على حفلات الغناء والرقص داخل المنازل أو في النوادي العامة، ويزداد هذا الاقبال في أزمنة الأزمات الاقتصادية والسياسية وهيمنة الدول على الحياة العامة. لا تقتصر هذه الظاهرة على فئة واحدة من الشبان والشابات، بل تشمل مختلف الفئات والطبقات والاجيال والنساء كما الرجال من دون تمييز. وتنتشر بشكل محلوظ النوادي والمقاهي والمطاعم التي تأمها الطبقات الوسطى والغنية، وتخترع جماهير الشعب مناسباتها الخاصة فتزاول طقوسيات تعاطي الغناء والرقص والتهام الطعام والمشروبات الروحية وغير الروحية. وليس من الضروري ان يكون الغناء أو الرقص جيِّداً كي يحصل التجاوب والانجذاب والمشاركة في الطرب. وهذه ظاهرة تحضّ عليها وسائل الاعلام، فنلحظها بشكل خاص في البرامج التلفزيونية بمختلف قنواتها وفي الغالبية العظمى من البلدان العربية. ولم تسلم من ذلك نوادي الضباط إذ تنشغل هي أيضاً بحفلات الطرب حتى ساعات متأخرة من الليل من دون انقطاع، ولا تحدّ من ذلك غارات اسرائيلية على جنوبلبنان. وتتميز حفلات الطرب هذه بالإقبال على الألحان الايقاعية التي تحرك بالدرجة الأولى الجسد وحواس الانتشاء والغرائز المكبوتة خصوصاً ما يتعلق منها بالحزن والمرح والدعابة السمجة. ولا يبدو ان هناك من يظهر اهتماماً كبيراً بأن تكون الايقاعات والألحان متنوعة وغنية في التعبير عن نوازع النفس البشرية، فيتم التجاوب اكثر ما يتم ومن دون احساس بالملل مع تلك الايقاعات الرتيبة المتكررة والدعابات المبسطة التي لا يتطلب فهمها والتمتع بها الكثير من الذكاء والإيحاء. ويرافق كل ذلك ميل للغرق في الثقافة الاستهلاكية، خصوصاً ما يتعلق منها بالأزياء المستوردة من الخارج وبالإكثار من التهام الطعام وبما يتعلق برموز المكانة الاجتماعية. ويكون التهام الطعام بشبق جزءاً متمماً للطرب، فتتسع بطون الرجال بشكل خاص مما أوحى لي بأن نسبة الحبل تبدو أكثر ارتفاعاً بين الرجال منها بين النساء، اذ تكبر بطونهم كما لو أنهم يعيشون في الشهر التاسع باستمرار ودون ولادة. لنتأمل مدى دقة ملاحظة استيلاء الطرب على العرب. ليس هناك، حسب علمي، من أبحاث ميدانية تظهر مدى إقبال الناس على التسلية بالمقارنة مع النشاطات الانسانية الأخرى، وكيف تختلف اتجاهاتها بين المجتمعات والثقافات الأخرى. ولست متأكداً ان العرب أكثر ولعاً بالطرب من غيرهم من شعوب العالم التي تماثلهم في أوضاعهم وأحوالهم العامة. بل ربما هم يقلدون غيرهم في زمن العولمة والتواصل المتزايد بين القارات والحضارات، حتى يقال ان العالم تحول الى قرية صغيرة. رغم ذلك يبدو لي ان العرب هم من بين أكثر المنشغلين بالطرب والتسلية والمأخوذين بثقافة الاستهلاك ومنها الولع الشديد بممارسة فنون تعاطي الطعام. وقد عجبت منذ زمن من أن أحد الباحثين الميدانيين العرب توصل من خلال تحليل مضمون الكتب المدرسية في بلد عربي الى ان الطعام قيمة كبرى تحتل المركز الأول في قائمة القيم الاجتماعية السائدة لا الحرية أو العدالة أو غيرها من القيم الانسانية. ومن أجل تحليل ظاهرة استيلاء الطرب على العرب، أرى من المفيد أن أعود الى بعض الانطباعات التي كونتها أثناء زيارتي الأخيرة الى لبنان وسورية. شاركت خلال هذه الزيارة في ندوة "دور بيروت في النهضة الثقافية العربية في القرن العشرين" التي دعت اليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "اليكسو" بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية. وقد عُقدت هذه الندوة في قصر اليونيسكو بين 5 و10 تموز يوليو 1999، وذلك في اطار الاحتفاء باختيار بيروت عاصمة ثقافية للوطن العربي، وقد اعددت شخصياً شهادة حول تجربتي الثقافية فيها عنوانها "بيروت: المدينة الملونة". وكان من بين من شاركوا في هذه الندوة المهمة وأعدوا شهاداتهم الخاصة صادق جلال العظم، وعبدالله عبدالدايم، وسعدي يوسف، ومحمد بنيس، وكمال بلاطة، ومطاع صفدي، ومؤنس الرزاز، وخيرالدين حسيب، وسهيل ادريس، واسعد خيرالله. وعلى غير ما توقع المساهمون في هذه الندوة، كانت تنتظرنا خيبة أمل كبرى. استطيع أن أقول شخصياً أنها ربما تكون من بين اسوأ الندوات التي شاركت فيها طوال حياتي. لم تهتم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "اليكسو" بدعوة أي امرأة للمشاركة في الندوة، ولم يحدث أي احتجاج على ذلك. ولكن ما صعق الجميع غياب الحضور حتى من جانب المعنيين مباشرة بشؤون الثقافة، وتبين ان هناك اختلافاً بيّناً بين المساهمين الذين اعدّوا بحوثهم وشهاداتهم بإحساس عال من المسؤولية والجدية، فجاءت كلماتهم على المستوى الرفيع الذي يليق بهم وبين الحضور الضئيل الذي ترك انطباعاً سيئاً عن مدى اهتمام اللبنانيين واللبنانيات بالثقافة. وهنا يحضرني أن أذكر بافتخار ما اكتشفته على هامش المشاركة في هذه الندوة، وهو ان مجموعة من الباحثات في لبنان كن قد شكلن تجمعاً مهنياً وأصدرن كتاباً ضخماً بعنوان "باحثات"، وبين المساهمات في هذا الكتاب نهى بيومي، اسمى شملي، نازك سابا يارد، سعاد حرب، نجلاء حمادة، فاديا حطيط، نهاوند القادري، فاديا كيوان، جين سعيد المقدسي، وطفاء حمادي، جنى الحسن، دلال البزري، أنيسة الأمين. هذه ظاهرة صحية بالمقارنة مع ظاهرة الإقبال على الطرب، ونشكر للمرأة أنها قامت بهذا الجهد. تفاجأنا نحن المساهمين في ندوة "دور بيروت في النهضة الثقافية العربية في القرن العشرين" بغياب أي تنظيم وأية محاولة للاعلان عنها وبعدم التنبه لغياب المرأة في لائحة الشخصيات المشاركة فيها. لم يكن بين المسؤولين والمسؤولات عن الصفحات الثقافية في الصحف ووسائل الاعلام اللبنانية من تسلم مسبقاً أية دعوة أو أي خبر عن انعقاد الندوة في بيروت. افتتح وزير الثقافة محمد يوسف بيضون الندوة في قصر اليونيسكو وتبعه في الكلام المدير العام لمنظمة "الكسو" الاستاذ محمد الميلي وعضو مجلسها التنفيذي الاستاذ هشام نشابة، وقد كاد الحضور ان يقتصر على الباحثين المساهمين، فلم يملأوا حتى الصفين الأماميين من قاعة كبرى فسيحة تتسع مقاعدها المخملية الحمراء لمئات البشر. كنا حقاً مثل البرغوت في اللبن، وهكذا استمرت الندوة لمدة خمسة أيام لم يتجاوز فيها الحضور في ذروتها خمسين شخصاً على الأكثر تماماً على عكس أسبوع ثقافي كنت قد شاركت فيه في جامعة دمشق قبل نحو سنتين. وفي محاولة لاحتواء نقمتي، حاولت شخصياً أن افسر ظاهرة غياب الحضور في السنة التي أعلنت اليونيسكو فيها بيروت العاصمة الثقافية للوطن العربي. قال لي بعض المثقفين والمعنيين بالثقافة في لبنان إن وزارة الثقافة اللبنانية نفسها هي المشكلة ولا علاقة لها بالثقافة وفعلاً شنّت عليها الصحف والمجلات حملة قاسية من دون أن تتمكن من تدمير بنياتها التحتية، فهي على ما يبدو لا تملك بنية تحتية، كما لا تملك بنية فوقية. أما وزارة الثقافة نفسها فشرحت لي بلسان أحد المسؤولين المشرفين عليها أن اللبنانيين أنفسهم لا يهتمون بالثقافة ولو ان دعوة وجهت لحضور حفلة غنائية يقدمها أي مطرب لامتلأت قاعة اليونيسكو وفاضت إلى الحدائق المحيطة بها. وبدا لي، عند سماع هذا الكلام من جانب إدارة وزارة الثقافة اللبنانية، أنها هي أيضاً يجب أن تكون قد توصلت إلى قناعة بأن الطرب أصبح يستولي على العرب، ولكنها يجب ان تكون قد أعلنت عجزها فأصبحت جزءاً من عملية الاستسلام. وتمنّعت منظمة "اليكسو" عن وضع اللوم على أي طرف لانعدام التنظيم والحضور والاهتمام من قبل وسائل الاعلام الرسمية وغير الرسمية. وهذه هي إحدى مشكلات جامعة الدول العربية بشكل عام، فهي بحكم وضعها تتخوف من ابداء أي رأي تجنباً للمساس بمشاعر أي من هذه الدول الشديدة الحساسية. وربما هذا ما يفسر لماذا اختفى المدير العام لمنظمة "اليكسو" فوراً بعد إلقائه كلمة الافتتاح. في هذه الكلمة، قال ان المثقف المبدع يعاني من "بطش الأمير وتكفير المفتي". وميّز الميلي في حديثه عن الوضع العربي الراهن بين اليأس والقنوط، أو بين اليأس الذي يدفعنا إلى المغامرة والتضحية والقنوط الذي يدفعنا إلى الاستسلام. هل القول بالخيار بين اليأس والقنوط تلاعب بالكلام لتجنّب الاعتراف بحقيقة الواقع العربي المرير؟ لنسأل، إذن، لماذا غياب الاهتمام بالثقافة على مختلف الأصعدة؟ وهل من علاقة بين هذا الغياب وظاهرة استيلاء الطرب على العرب؟ ترى وصلنا إلى مرحلة قنوط الشعوب العربية بعدما اقتنعت أن جميع سبل التأثير في الحكومات مغلقة وما بدا منها ممكناً قد أدى بها إلى الوصول إلى طرق مسدودة؟ أي هل لم يعد من مجالات مفتوحة أمام الشعوب العربية غير سلوك سبل الطرب والتسلية في محاولة فاشلة للتغلب على احباطاتها واحساسها بالعجز العربي العام أمام التحديات التاريخية الكبرى؟ هل فقدت الشعوب العربية احساسها بمسؤولياتها بعد ان فشلت في تغيير حكوماتها العاجزة والتي كانت هي بدورها قد فقدت ثقتها بنفسها منذ زمن طويل وتخلت عن تحمّل مهمات القيادة المسؤولة؟ وربما يظن البعض ان الإقبال على الطرب نوع من توجيه رسالة إلى الأعداء توحي لهم بأننا قوم لا نُقهر واننا نستطيع ان نتحمل أكثر مما تحملنا مهما كانت الصعوبات. قد يكون ذلك صحيحاً في بعض الحالات، ولكنني واثق في هذه الحالة من أن الدولة استولت على المجتمع وعطلت المجتمع المدني حين ضيّقت على الشعب وحدت من قدراته على المشاركة في الحياة العامة وتغيير الواقع فانصرف إقراراً بعجزه إلى اللهو الذي أصبح هو المجال الوحيد المتاح للناس. هنا تذكرت ما قالت إحدى شخصيات روايتي "إنانة والنهر" التي نشرتها عام 1995: "لقد ضيقوا على الشبيبة كل مجال وسلبوها حق المشاركة في أي نشاط، فانصرفت كلياً، وهذا أمر طبيعي، لتحصيل المعيشة واللهو... اصبح اللهو هو المجال الوحيد الذي تنفس به الشبيبة عن طاقاتها المكبوتة. وإذا لم نفسح لها المجال للمشاركة البناءة في تطوير الحياة العامة على اختلاف وجوهها، فلن تتغير الأمور، مع الأسف الشديد" ص154. في رأيي ان انعدام الاهتمام الشعبي بالشؤون العامة والانصراف نحو التمتع بالطرب المفرغ من أية مضامين إنسانية جادة يعودان إلى الاحساس العميق بالعجز نتيجة لأزمة غياب المجتمع المدني وقمعية السلطات الاجتماعية المؤسسات الدينية والعائلية السائدة وهيمنة الدولة على مختلف النشاطات في الكثير من الأحوال وندرة سبل التغيير التي ما أن نسلكها حتى نكتشف أنها تصل بنا لا محالة إلى طريق مسدود. في هذا المجال، اذكر ان أصحاب المصالح الخاصة هم وحدهم المعنيون بالتقرب من الدولة. شاهدت اثناء تجوالي في شوارع بيروت يافطات رفعها مثل هؤلاء من أصحاب المصالح الخاصة احتفالاً بعيد قوى الأمن الداخلي، وبمناسبة خاصة بالجيش. في شارع السادات من رأس بيروت رفعت في الأسبوع الأخير من حزيران يونيو يافطة تقول: "أمننا أمانة في عنق قوى الأمن الداخلي". وعند ملتقى شارعي بلس وجان دارك في رأس بيروت أيضاً لماذا الشعوب الضعيفة تكثر من تسمية شوارعها باسماء أجنبية؟، رفعت جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية في 22 تموز يوليو 1999 يافطة تقول: "جيشنا لكل الوطن فكونوا معه وخلفه لتحرير جنوبنا الغالي". هنا أتساءل: مَنْ غير أصحاب المصالح من الشعب يمكن ان يمشي مع الحكومات وخلفها طالما هي لا تمثله ولا تعبر عن آماله وطموحاته؟ أليست هي التي أفقدت الشعب ثقته بنفسه فانصرف عن دوره في عملية التغيير للتسلية واللهو، وكان أن أخذ الطرب يستولي على العرب؟ * كاتب واستاذ المجتمع والثقافة في جامعة جورج تاون - واشنطن