العبور الى ضفاف زرقاء محمد بنيس منشورات تبر الزمان، تونس، 1999 ما تخلفه عوالم او مناخات "العبور الى ضفاف زرقاء" الكتاب الجديد للشاعر المغربي محمد بنيس، من أثر في القارىء لا يبتعد كثيراً عن الأثر الذي تتركه النصوص التي تضمنها كتابه السابق "شطحات لمنتصف النهار". كتاب الشاعر الجديد يخرج عن حدود الأنواع الأدبية الواحدة ليضم في متنه أنواعاً أدبية متعددة كالرسالة، والشعر، والنص، والسرد الشبيه بسرد الرحلات يعبره الشعر والحوار، فضلاً عن السيرة الذاتية التي تطعم كل هذه الأجناس مجتمعة، فيما يشكل الشعر الخيط الأكبر الذي تلتم حوله النصوص والرسائل ولا يتحرر الشاعر من هاجسه مهما كتب من خطابات أخرى غيره. في "الطريق الى القدس" الفصل الأول من الكتاب تتغلغل فلسطين داخل السرد بوصفها جدوة الأمل الذي لا يخمد دون أن تغادر حدود الحلم المحمول في الذاكرة: "أرض تشبعت بماء الرحمة. والدم المسفوح عليها، من الأنبياء الى الشهداء، ترك لها السواقي والنهيرات تتنفس بذوب المسك والعنبر واللبان". أما هي في الحقيقة فليست أكثر من "لغة وقليل من الصور" ص 21. على أن الصورة الموهومة لفلسطين سرعان ما تنكسر عند أي اطلالة على أي جزء منها: "الماء وسخ وثقيل قال الياس". يستحضر الشاعر الرحالة المغربي ابن بطوطة القادم من أسوار طنجة بثقافته الفقهية المزركشة ببعض أبيات الشعر موّلفاً رمزياً بين رحلته عام 1990 الى عمان لمشاركة الفلسطينيين احتفالاتهم بالذكرى الثالثة للانتفاضة وبين رحلة ابن بطوطة. فإذا كان الأخير قد نجح في العبور عبر عسقلان وأريحا ودمشق الى القدس فإن بنيس يعجز عن التقدم خطوة واحدة الى فلسطين "معقول فلسطين على بعد قدمين ونحن لا نستطيع العبور". ومن جهة أخرى فإن سفر ابن بطوطة يعني المغامرة والمتعة واستكشاف المكان والاطلالة والانفتاح على عوالم جديدة ثم العودة. أما سفر الشاعر فموسوم بالرغبة المقموعة غير القابلة للتحقق في الأفق المنظور فالفلسطيني - الشاعر بمعنى من المعاني - لا يسافر لكي يعود، بل ليحمل قدسه وفلسطينه ويمددها في ضوئه الداخلي وحسب. في القسم الثاني من الكتاب يقتفي الشاعر أثر رامبو في الغياب مخاطباً اياه كصديق حميم عن ذكريات الطفولة، مشيراً الى الأسباب والعوامل التي لعبت الدور الأبرز في صوغ تجربته الإبداعية، محدداً التقاطعات المشتركة مع العابر بنعال من ريح كالتصور المادي والموضوعي المشترك عن الشعر إحساساً ولمساً وانصاتاً فضلاً عن الرؤية المفهومية الواحدة للكتابة من حيث تموضعها في حدود الجسد أولاً وأخيراً. فشطحات الجسد هي شطحات الكتابة ليس إلا. ويحاجج الشاعر رامبو أيضاً في قرب شعره من الشعراء الوثنيين الاغريق، وهذا الانتماء يرسخه الشاعر عند حديثه عن ضريح "سيدي الرباط" الذي يسهر سيداً على "الرمل والطيور منحدر أسلافي الوثنيين". نذكر هنا أيضاً مجموعته الشعرية السابقة المعنونة ب"المكان الوثني" وفيها صاغ الشاعر فضاءات للكتابة الحرة والوحشية وحفر عميقاً في المكان الذي ينبثق من لحظة الكتابة وجحيمها ومن انفجاراتها الداخلية التي تكتنز الجسد وشقوقه واضطراماته. "كنت كمن يبحث عن أرض تولد في الخرافة". يفضي الشاعر لرامبو بمجاهدته في الكتابة وبتسلحه بالعلم والمعرفة منذ المرحلة الثانوية وانكبابه على الدراسة، دراسة الشعر المغربي في زمن الاضطرابات الكبير مشيراً الى أن شخصية الشاعر لا تتضح من غير معرفة قوية بالشعر والذات والعالم، ولا تتحقق من غير ممارسة نصّية، لكنه لا يحصر الممارسة الشعرية في حالة الكتابة وحسب، بل يطرح سؤالاً في غاية الأهمية هل ممارسة الشعر منحصرة في حالة الكتابة ثم ينتهي كل شيء بعد ذلك. فالشعر تداخل مع المصير الداخلي واليومي للذات حتى "تواشجت الكتابة بالمجاهدة النسكية". يعلل الشاعر أسباب كتابته رسالة الى رامبو وليس غيره من الشعراء، بأن الشعر المغربي نادى بالمجهول ورامبو سيد المجهول المعمم في الرؤية والنص معاً. من جهة أخرى يرسل الشاعر رسائل الى عدد من الشعراء المغاربة الراحلين: عبدالله راجع، محمد الخمار الكنوني، أحمد المجاطي تأخذ الرسائل أهميتها من أهمية التراتبية الثقافية والشعرية للأسماء التي ساهمت في تشكيل الفضاء الشعري والثقافي للمغرب. لا يقع الشاعر في رسائله في أي افتتان أوتو بيوغرافي أو ذاكراتي توثيقي مشلول، ولا يروي أيامه مع أصدقائه الشعراء، مقدار قراءتها قراءة. فهو وإن سرد وقائع وأحداثاً شخصية، فقد انتقاها انتقاء، من كم هائل من اللحظات التي تهدف بالدرجة الأولى الى اضاءة حال الشعر والشعراء في المغرب، ومن ثم رسم صورة شاملة عن المشهد الثقافي. يحتفل الشاعر بالشعراء المغاربة في مماتهم كما لو أنهم يعيشون معه، ويشاركونه لحظات حياته، تماماً مثلما احتفل بهم، أحياءً، في كتابه الشهير "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" عندما عمل على نقدهم ودراستهم. إذا كان المرسل، عادة، ينشغل بما تحدثه رسالته أو نداؤه أو خطابه من أثر في المرسل اليه، فإن رسائل الشاعر الى الشعراء الراحلين تبدو، في عمقها، رسائل من الشاعر لنفسه، انها ترتد عزاء له في وحدته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تظهر الرسائل أشبه بدفاع مستميت عن انجازات ثقافية وشعرية ونشاطات أدبية كالمجلات وغيرها باللغة العربية، قام بها شعراء الستينات في المغرب. لا توغل الرسائل في ما هو شخصي، مقدار حفرها عميقاً، في تاريخ وتجارب شعرية وثقافية، تندثر وتموت مع لغتها التي تندحر وتتعرض للتقهقر، فالشعراء يحضرون داخلها كذوات ثقافية فاعلة تقاوم مع الشاعر الموت بالشعر الذي يتحول كثافة وجود ومبرر حياة، ويأخذ ذلك سؤالاً حزيناً وأليماً يطرحه الشاعر: "يصيبني العجز عن فهم ما جرى للشعر والشعراء في المغرب العربي". فالشعراء الراحلون كلهم ينتمون الى جيل الستينات، وقد تبنوا مغامرة القصيدة الحديثة باللغة العربية، ضمن فضاء تحتله اللغة الفرنسية، من هنا نجد حجم غربتهم ووحدتهم وموتهم، دون أن يحرك ذلك ساكناً لدى الشعراء والمثقفين المشارقة: "وحيدين يموتون. ووحيدين يقضون الليالي في برد الظلمات. ومن موت ننتقل الى موت كأن علينا أن نموت فقط. ذلك حظنا من اللغة العربية ومن العروبة. نموت. في غربة مضاعفة". أسلوبياً تخرج الرسائل عن وظيفتها التوصيلية والافهامية لتصب في الوظيفة الأدبية، إذ تقاطع الشعر والنثر في نص واحد، وتطل منها السيرة الذاتية الثقافية، فهي ليست رسائل اقناعية لتنطبع بالنثر وليست شعراً لا يغادر نفسه. انها تستقي من النثر، وتخطف الشعر من ألفة حزينة، ورغم أنها تعج بالتواريخ والأحداث والأسماء، إلا أنها لا تسقط في النثر العاري، فضلاً عن أنها تربأ بنفسها الوقوع في البكاء والرثاء والندب والنوح هذا من جهة، من جهة ثانية يغيب عنها التخوين والتجريح والتشهير الذي غالباً ما تنطبع به كتابات الشعراء عن الشعراء الآخرين، أبناء المهنة ذاتها. فالشاعر لا يصرخ مع أرسطو "أيها الأصدقاء، ليس هناك أبداً أصدقاء" بل يقول مع نيتشه "أيها الأعداء، ليس هناك أبداً أعداء"، وهذا ما انتهت اليه مقالته المعنونة "بتمارين الصداقة" والتي شارك فيها، في القاهرة احتفالاً بذكرى مرور ألف عام على وفاة أبي حيان التوحيدي والمنشورة في مجلة "فصول" العدد 14، شتاء 1996. ان ذهاب الرسائل الى الشعر وتقصي تجلياته في حياة الشعراء جعلها تنفتح على الصيرورة والصمت الذي هو شرط الكتابة وضرورتها. الصمت الذي يفتح رسائل اقناعية لتنطبع بالنثر، وليست شعراً لا يغادر نفسه. إنها تستقي من النثر، وتخطف الشعر في ألفة حزينة، ورغم أنها تعج وتنوء بالتواريخ والأحداث والأسماء إلا أنها لا تسقط في النثر العاري، فضلاً عن أنها تربأ بنفسها الوقوع في البكاء والرثاء والندب والنواح، فذهابها الى الشعر، وملاحقتها تجليه في حياة الشعراء، جعلها تنفتح على الصيرورة والصمت الذي هو شرط الكتابة وضرورتها. الصمت الذي يفتح الجسد على سؤال وجوده الأساسي. ان الصداقة التي هي "لغة" بحسب التوحيدي لا تتحدد بالمودة والمحبة فحسب بل تظهر من خلال الرسائل بأنها هي التي تعطي للشاعر جوهر وجوده ومعناه، وتتم خارج القيم المنفعية. من هنا تبدو صداقة الشاعر مع الشعراء الراحلين، صداقة الجوهر خصوصاً وأن فضاءها هو الشعر، وهي عميقة لأنها وجوديه بامتياز. والشاعر إذ يودع أصدقاءه فإنما يودع جزءاً من نفسه من ماضيه ومستقبله "صوت الصداقة صوتي". يظل الشعر يرافق الشاعر حتى في القبر إذ تمتزج التراتيل بأبيات من امرؤ القيس، المتنبي، رامبو، ييتس. إذا كان الشعر هو المحمول التحتي والخلفي لكل فصول الكتاب، فإن القصائد التي تضمنها القسم الأول تختصر الذاكرة الثقافية للجسد، إذ تضطلع بتجاويفه وانهماماته، وتميط اللثام عن الاحتدام الداخلي. بهذا المعنى تتجلى قصيدة الشاعر كممارسة تأملية ليس في الذات فحسب، بل وفي اللغة أيضاً، إذ تعمل على نقض يقينيات الخارج والداخل معاً، كاشفة أنماط حضور الذات في بلاد يفشو فيها دم الشعراء. ليس المعنى واضحاً في القصائد. الأرجح أن الشاعر يزوبع المعاني، ويظهر كأنه صامت من نوع كبير، من خلال استعادة العمق الأنطولوجي الصامت في الشعر. لا يسقط القول الشعري في حطام المعرفي، ولا يذهب كلياً الى المرئي، فالشاعر يعمل على محو المرئي وتكسيره بحسب برنار نويل. ذاهباً بالقصيدة من التعقيد الى البساطة. فعلى رغم نهوض القول الشعري على الأفكار أحياناً، إلا أنها لا تظهر على السطح بل تضمر في تحتانيات القول الشعري. تقترب القصائد من الانغلاق لكنها لا تصل اليه، إذ تظل هناك أبواب وطرق ودروب ليس من المستحيل العثور عليها للدخول في فضاءات القصائد، خصوصاً وأن هندسة القصيدة تتوازى مع هندسة المعنى: "ويداك سيدتان / راسختان / تنتقلان بين جلالة الصبوات / ورق يؤالف نرده / وفراغه / رقع تهدد مسرح الكلمات / أصغي اليك وأنت تشمل رجة الألوان بالألوان". تقترب العملية الشعرية عند الشاعر من النحت، وقد تطل على التجريد أحياناً، لذا يتبدى في محترفه الشعري النقش، والرقش، والتوريق، والزخرفة، والمعمار، والتزويق، والتوشيح... إلخ. لا تقف هندسة القصيدة على اللغة فحسب بل تتعداها الى استخدام بنية المكان والاحتفال بالمجال البصري في متن القصائد. يبدو الشاعر - هنا - مشغولاً بالألوان كأنها أول الكلمات، وبالكلمات كأنها أول الألوان، فاشتغاله على بياض الصفحة جمالياً يطرح عبر مثلثاته ومربعاته الشعرية، علاقة الشعر بالرسم، بتحويل النص الكتابي الى نص بصري، مخرجاً القراءة الى حيز البصر، وقد سبق أن ذهب الشاعر بعيداً في ذلك، عبر مجموعته الشعرية "في اتجاه صوتك العمودي". اشتغال الشاعر البصري على الشعر ليس لعباً مجانياً أو تزيينياً، كما قد يتبدى للوهلة الأولى، بل هو اشتغال تراثي يعود الى العصور السابقة، وقد انتشر في المتن الشعري القديم في المغرب، فتوزيع القصائد على بياض الصفحة ليس سوى مرآة تعكس ما يعتمل داخل الشاعر، والقصيدة، في آن معاً، ومن ثم ينتقل أثر ذلك للقارىء أيضاً. لذا فالصراع بين الأسود والأبيض هو من أجل اختيار ما يصلح لأن يكون نموذجاً ويؤكد الرغبة في اعطاء شتات يلمه القارىء في وعيه يعيد تركيب صورة العالم كما رآها الشاعر بحسب بنيس. كتاب "العبور الى ضفاف زرقاء" حفر رموز وزخارف وممرات عميقة وملاحة في أمكنة وشخوص، تمتد من القدس فرامبو فالشعراء المغاربة. استراتيجيات نصية متعددة تجد اجتماعاً لها في الشعر الذي يتجلى في حياة الشاعر كشرط انطولوجي وشرط مصير شخصي وجسدي يجترح خط حياة داخل الموت، يضيء الشاعر من خلاله السيرة الثقافية الذاتية التي تنفتح على سيرة الثقافة المغربية برمتها، مقيماً "نشيداً جنائزياً" للغة العربية التي تأفل وتتقهقر في الثقافة والحياة هناك.