منذ تسلمه السلطة ملأ ايهود باراك اجواء المنطقة بضجيج عالٍ بشأن رغبته في اعادة تشغيل قطار السلام على مساراته الثلاثة الفلسطيني والسوري واللبناني، وقدم نفسه كمهندس بارع قادر على اصلاح الخراب الذي اصابه خلال سنوات حكم الليكود الثلاث. ويوحي للعرب والعالم ان لديه ارادة وتصميماً على قيادته على ذات الطريق التي قاده عليها "مكتشفه" وملهمه رابين، والوصول به الى سلام كامل مع العرب والفلسطينيين. وحدد لنفسه سقفاً زمنياً اولياً لوصول محطته النهائية مدته 15 شهراً، ولم تهدأ حركته العربية والدولية لاقناع الجميع بصدق نياته. ويسجل له نجاحه في شد اهتمام الدول الكبرى نحو المنطقة واشغالها من جديد بقضاياها، ومنح رسلها ومبعوثيها فرصة تجديد جولاتهم الخاطفة والمكوكية بين عدد من عواصمها. وأنعش الامل في صفوف السوريين واللبنانيين والفلسطينيين بعملية السلام، وبقدرتها على العودة للحياة واستعادة ديناميكيتها التي فقدتها في عهد نتانياهو. الى ذلك اثار كلامه وتصريحاته الايجابية تنافساً خفياً بين المسارين الفلسطيني والسوري، وحرك نزاعات عربية، ظلت خامدة طيلة فترة حكم الليكود، عطلت تنسيق مواقفهم قبل استئناف المفاوضات على اي من مساراتها. في البداية رحب الجميع بها، وبعد زيارته واشنطن ولندن، منتصف تموز يوليو، ظل بارومتر الترحيب السوري في صعود، وتراجع عند الفلسطينيين والمصريين، ثم عاد وارتفع بعد لقائه الثاني، خلال اسبوعين، بالرئيسين مبارك وعرفات. وأظن انه سيبقى يتأرجح صعوداً ونزولاً ويتقلب بين التفاؤل والتشاؤم ما دام العرب يعملون برد الفعل ولا يملكون خطة موحدة متكاملة للسلام مع اسرائيل، ويعولون على التصريحات التي تطلق لأغراض متنوعة، ويفتقدون المقياس الموحد الثابت لتقييم توجهات حزب العمل للسلام، والرؤية الموحدة للحدود الدنيا والقصوى لقدرات باراك. وينقصهم التقييم الواقعي لدور العامل الخارجي، وبخاصة توجهات ادارة كلينتون الاميركي في عهده. لا شك في ان برنامج حكومة باراك، وتصريحاته وتحركاته الكثيرة المثيرة حول السلام مع سورية ولبنان والفلسطينيين ليست مطروحة للاستهلاك السياسي الخارجي او الداخلي فقط، وتحسين صورة اسرائيل واستعادة علاقتها الدولية والاقليمية التي خربها نتانياهو، ولا لتمويه صورة الصقر العسكري قائد "دورية الاركان" واظهاره كحمامة سلام، بل تتضمن ايضاً نوايا وتوجهات حقيقية لتحريك عملية السلام على مساراتها الثلاثة، والوصول عليها كلها خلال ولايته، اذ امكن او على الممكن منها، الى سلام يبنيه بيده حسب خريطته ومفهومه الخاص للسلام مع العرب يضمن مصالح اسرائيل الاستراتيجية، ويحقق نظريته حول امنها في القرن القادم، وليس وفق تصور العرب ومفاهيم، وأمنيات الفلسطينيين. والمشكلة لم ولا تكمن في كيل المديح الفلسطيني والعربي له، ومقابلة كلامه الايجابي بكلام ايجابي مشابه تماماً، فبعضه مفيد خاصة اذا احسن استخدامه وحوّل الى قيود سياسية ملزمة له ولحكومته ولقيادة حزب العمل، بل تتجسد في: اولاً، تغاضي معظم العرب والفلسطينيين عن الشق الآخر السلبي المنغص في "كلامه" عن السلام، واعتمادهم امنياتهم ورغباتهم الذاتية كأساس لتقييم موقفه. والافراط في التفاؤل والمبالغة في رفع سقف توقعاتهم، وخلق اجواء شعبية عامة غير واقعية حول ما يحمله قطار التسوية والسرعة التي سيسير فيها في عهد باراك "نبي السلام المنتظر". وثانياً، ارتباك دور الاطراف العربية المشاركة في عملية السلام امام نجاح باراك في خلط اوراقها وملفاتها، ودفع رعاتها الدوليين، وبخاصة الولاياتالمتحدة الاميركية والدول الاوروبية، لاعادة النظر في مواقفهم والتزاماتهم السابقة بشأن التقيد بالجدول الزمني لتنفيذ واي ريفر وبقية قضايا المرحلة الانتقالية، وتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على الاراضي الفلسطينية المحتلة، وحق الفلسطينيين في الاعلان عن قيام دولتهم. وثالثاً، تسرع الجميع في منح باراك مكافآت سياسية ومادية ومعنوية سخية تفوق قيمة الكلام العام الجميل الذي اطلقه حول السلام، كان آخرها لقائه بالرئيس الجزائري "بوتفليقة". قبل زيارة واشنطن نال من الفلسطينيين لقب "الصديق الشريك"، ولأجله علقوا اعلان قيام دولتهم لأجل غير معلوم، ومنح من عواصم العرب "وسام صانع السلام" قبل ان يروا خيره من شره. ووصل واشنطن وعبارات المديح والثناء ساخنة، وهناك حصل باراك من الادارة الاميركية، بزيارة واحدة، على ما لم يحصل عليه رئيس اسرائيلي آخر. فالبيان المشترك، الذي صدر عقب زيارته واشنطن ولقاءاته الكثيرة والطويلة بالرئيس كلينتون، بارك استراتيجيته السلمية والحربية، وجعل من المصالح الاميركية - الاسرائيلية المشتركة حجر الاساس في اعادة ترتيب اوضاع المنطقة في اطار عملية السلام الجارية، واصبحت اسرائيل في عهد باراك شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة الاميركية، من نوع جديد. يساهم ليس فقط في تنفيذ المهام التي تخدم مصالح الطرفين، بل وايضاً في تحديد وتقرير التوجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية المشتركة في كل ارجاء الشرق الاوسط. وصمم لهذه الشراكة "قيادة عليا" من الرئيسين، تجتمع دورياً مرة كل اربع شهور. وتبنت ادارة كلينتون خلط باراك اوراق الملف الفلسطيني بالسوري واللبناني، ومحاولة مزج قضايا الحل المرحلي مع الفلسطينيين بقضايا الحل النهائي. وتخلت عن موقفها النقدي للتوسع في الاستيطان واعتبار ما استحدث بعد واي ريفر غير شرعي تجب ازالته. وتراجعت عن لعب دور مباشر داخل غرف المفاوضات مع الفلسطينيين، واكتفت بدور المراقب من داخل المبنى وبما يمكن عمله من خلال "القيادة العليا المشتركة". وكأن استفراد باراك بالفلسطينيين يسرع عملية صنع السلام العادل. وبالثنائية الاسرائيلية - الفلسطينية ودون تدخل دولي حاسم يمكن حل قضايا الحل النهائي: "القدس، اللاجئين، الحدود، الاستيطان، المياه، والعلاقات المستقبلية". الى ذلك تراجعت ادارة كلينتون عن موقفها الحازم الذي كانت تبديه في عهد نتانياهو تجاه ضرورة تنفيذ اتفاق واي ريفر وفق التوقيتات الزمنية الواردة فيه، ولم تعد تعتبر عدم تنفيذه مساساً بالمصالح الاميركية في المنطقة، وبمكانة الرئيس كلينتون السياسية والشخصية. ومنحت باراك فرصة محاولة تغيير الممكن، مما يريد تغييره في الاتفاق، عبر ابتزاز او اغراء او تضليل القيادة الفلسطينية. وتعهدت بلعب دور مؤثر مع القيادة السورية لاستئناف المفاوضات على قاعدة، من جهة، لا تتعارض نظرياً مع الموقف السوري الذي يطالب باستئنافها من حيث توقفت، ومن جهة اخرى، تمكن حكومة باراك من اعادة فتح كل الملفات وإعادة التفاوض عملياً حول كل القضايا التي حسمت في عهدي بيريز ورابين، بما فيها الانسحاب من كل الأراضي السورية التي احتلت في الرابع من حزيران 1967. واذا كانت المكافأة الاميركية لباراك امراً خارجاً عن ارادة العرب، فما لا شك فيه أن مواقفهم التي سبقت زيارة واشنطن ساهمت في توسيعها وتنويعها وسهلت منحها له. وبعد انتهاء حفلة منح المكافآت ظلوا في حال انتظار ما سيخرجه باراك من جعبته، وكأن ما فيها غير معلوم ولا يمكن التعرف عليه مسبقاً. اعتقد ان القراءة الموضوعية للمصالح الاميركية في المنطقة في الفترة الباقية من ولاية كلينتون، ولبرنامج حزب العمل وحكومة باراك، ومستوى ودرجة تحول المجتمع الاسرائيلي نحو السلام الحقيقي، وطبيعة التسوية المقبولة من الفلسطينيين والسوريين، تمكن العرب من تقدير شبه دقيق للموقف ولمجريات عملية السلام حتى نهاية عام 2000. واذا كانت الاتصالات المباشرة وغير المباشرة قد حسمت استئناف المفاوضات على مسارها الفلسطيني خلال ايام قليلة، فاستئنافها على المسارين السوري واللبناني لن يتأخر عن نهاية ايلول القادم. ويخطئ من يعتقد انها ستسير بسرعة، وبامكان التوصل حتى نهاية الألفية الثانية الى اتفاقات سلام كاملة على اي من المسارات الثلاثة. وأقصى ما يستطيع باراك عمله ويطمح كلينتون الى تحقيقه قبل مغادرته البيت الابيض لا يتعدى: اولاً، المساهمة في بلورة "اتفاقية اطار للسلام السوري - الاسرائيلي" تتضمن نصوصاً واضحة حول الانسحاب والأمن والعلاقات الديبلوماسية والاقتصادية… الخ شبيه باتفاقات كامب ديفيد ولها جدول زمني ملزم للطرفين. وبما ان باراك التزم امام ناخبيه بسحب القوات الاسرائيلية من جنوبلبنان قبل حزيران 2000 فترابط المسارين يلزمه اجراء استفتاء حول الاتفاق مع السوريين قبل هذا التاريخ. ثانياً، تنفيذ اتفاق واي ريفر وانطلاق مفاوضات الحل النهائي مع الفلسطينيين، وتوصل الطرفين الى "اعلان مبادئ" حول كل او بعض القضايا الشائكة. يكون قاعدة وأساس لاستكمال المفاوضات لاحقاً حولها، كما كان اتفاق اوسلو قاعدة لمفاوضات المرحلة الانتقالية. واذا كانت صياغة اتفاق "اوسلو" بشأن قضايا المرحلة الانتقالية، وهي الأسهل، تتطلب 8 شهور من المفاوضات شبه المتواصلة وتنفيذها ما اتفق عليه استغرق للآن اكثر من 6 سنوات ولم يستكمل، فبديهي ان تستغرق مفاوضات قضايا الحل النهائي الأشد حساسية والأكثر تعقيداً بقية ولاية كلينتون وكل فترة ولاية الرئيس الاميركي الذي سيخلفه. ومن حق الفلسطينيين الشك في نوايا باراك، فمن يرغب في الوصول لتسوية لقضايا كبيرة ومعقدة خلال 15 شهراً، لا يطالب بتقليص الدور الاميركي ولا يستبعد من يمكنه المساعدة وتقديم مقترحات محددة لحلول شبه عادلة. الى ذلك تخطئ القيادة الفلسطينية اذا وافقت على استئناف مفاوضات الحل النهائي قبل تحديد مساحة الانسحاب الثالث وانجاز خرائطه وجدولة تنفيذ كل استحقاقات المرحلة الانتقالية. لقد اخطأت حين وافقت على ترحيل قضية المياه من الانتقالية الى النهائية ويفترض عدم تكراره، ويكون خطأها اكبر واكثر ضرراً اذا اعتمدت قنوات خلفية سرية للتفاوض حول قضايا الحل النهائي، فطريق اوسلو "السرية" لا تصح ولا تصلح لمعالجة قضايا يتشابك فيها الوطني بالقومي مثل القدس، اللاجئين، الحدود، المياه ومستقبل العلاقة الأمنية ومع الجوار. واي اتفاق حولها وحول الاستيطان لن يكتب له الحياة دون استفتاء الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه. والواضح ان دنيس روس وأنديك وبعدهما وزيرة الخارجية اولبرايت قادمون للمنطقة لتسويق مواقف باراك باعتبارها توجهات اميركية. ولا يعقل ان يستمر اطراف النظام الرسمي العربي دفن رؤوسهم في الرمال، والهروب من تنسيق مواقفهم في مواجهة استحقاقات المرحلة الجديدة من العلاقات الاميركية - الاسرائيلية ومسيرة عملية السلام. وقديماً قالوا في الوحدة قوة وفي التمزق خسارة مضاعفة. * كاتب سياسي فلسطيني.