تعيش السلطة الفلسطينية وكل قوى المعارضة، هذه الأيام، حالة عجز لا تحسد عليها. وتتعرض هذه السلطة لضغوط داخلية وخارجية متنوعة نجحت في ارباكها، وعطلت قدرتها على تحديد مواقف واضحة من مسائل وطنية اساسية ملحة. فالمفاوضات مع الاسرائيليين حول قضايا المرحلتين النهائية والانتقالية الجوهرية مجمدة، ولم يكن يعرف متى يتكرم باراك ويبعث فيها الحياة قبل ان يعلن في اوسلو انها تبدأ في 8 تشرين الثاني نوفمبر. اما تنفيذ اتفاق شرم الشيخ فيجري بصورة انتقائية مشوهة، وحسب تقديرات باراك الشخصية وتوقيتاته الزمنية. الى ذلك لم يتوان باراك عن توجيه لكمات قوية للسلطة الفلسطينية واحدة تلو الاخرى. آخرها الحديث عن اعتراضه على تركيبة الوفد الفلسطيني لمفاوضات الحل النهائي، ومنحه تعزيز الاستيطان في الضفة والقطاع اولوية، بعكس ما تعهد به لجمهوره الانتخابي "باعطاء اولوية للتعليم وايجاد فرص عمل جديدة للعاطلين للعمل وليس للاستيطان". بل انه دخل مساومات ودية مع قادة المستوطنين حول مصير الأرض الفلسطينية، وتجادل معهم بمحبة حول تنظيم وجودهم بما يضمن "للأعزاء على قلبه"، كما قال، بقاءهم في مواقعهم، وصيانة أمنهم وأمن مستوطناتهم الجديدة والقديمة. ومنحهم عن طيب خاطر ما يريدون فحققوا اهدافهم المباشرة وبعض احلامهم التاريخية، ورسّم رغباتهم بقرارات حكومية رسمية. وكأن احتلاله للأرض الفلسطينية يمنحه حق تملكها والتصرف بها. الى ذلك بدأ ببحث مفهومه وتصوراته لحل قضايا الحل النهائي مع اركان حكومته، وقرر بدء التفاوض حول القضايا الاقتصادية، واجراء فصل اقتصادي وجسدي بين الجانبين حسب تصوره. وسمى وفده للمفاوضات الاقتصادية قبل تحديد وفده لاستكمال المفاوضات حول بقية القضايا الانتقالية. وقبل تسمية وفده المركزي لمفاوضات الحل النهائي، وضمنها العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية بين الطرفين. وكأن لا شريك له في المفاوضات، ولا وجود لعملية سلام، وجدول اعمالها مجهول ولا أسس تنظمها وتضبط حركتها. متجاهلاً الاتفاقات التي توصل لها مع الفلسطينيين آخرها التي وقعها بقلمه في منتجع شرم الشيخ بحضور الوزيرة اولبرايت وعدد من زعماء المنطقة. ومن طرف آخر تواصل الادارة الاميركية الاشادة بمواقف باراك وتضخم خطواته الجزئية مثل فتح ممر "الآمن" بين الضفة والقطاع، واطلاق سراح دفعتين من المعتقلين. ورغم ان شروطه التي فرضها جعلت الممر الآمن غير آمن، وكان عدد من اطلق سراحهم اقل بكثير مما التزمه نتانياهو في واي ريفر. فإن اركان البيت الابيض اعتمدوا ذلك كمؤشرات على صدق نياته والتزامه تنفيذ ما وقع عليه، وتغاضوا عن خطواته احادية الجانب المدمرة لمناخ السلام ولمكانة السلطة الفلسطينية داخلياً وخارجياً. وساندوا طلبه استئناف المفاوضات متعددة الاطراف. وغضوا النظر عن حالة عملية السلام المتدهورة على المسارات الاخرى. ومارسوا ويمارسون ضغوطاً قوية على الاطراف العربية، وبخاصة مصر، لسحب تحفظاتها والتجاوب مع رغبة باراك. وتضغط ادارة كلينتون بقوة على الطرف الفلسطيني للصمت على خروقاته الفظة للاتفاقات، ومواقفه المتناقضة مع روح عملية السلام وأهدافها. ونسيت الوزيرة اولبرايت قولها في رسالة الضمانات التي اعطتها للجانب الفلسطيني في شرم الشيخ، "الولاياتالمتحدة تدرك مدى تأثير وضرر النشاطات الاستيطانية على عملية السلام" وانه "من اجل انجاح المفاوضات لحل جميع القضايا العالقة "الانتقالية" والتوصل الى اتفاق الحل النهائي خلال سنة واحدة، من الضروري خلق بنية ملائمة لذلك.. ويجب على كلا الطرفين عدم اتخاذ اي اجراءات احادية الجانب من شأنها ان تقوض تلك البنية". ليس من شك في ان قبول ادارة كلينتون بدور المسهل وليس الحكم، وصمتها على مواقف باراك احادية الجانب، وبخاصة اعطاءه وضعاً قانونياً لأكثر من 30 مستوطنة جديدة، وتلاعبه بالتوقيتات الزمنية التي حددها اتفاق شرم الشيخ وتعطيله المفاوضات، يشير الى انها بدأت في آخر عهدها بتخفيض مستوى اهتمامها بعلمية السلام على المسار الفلسطيني، لمصلحة العمل خلف الكواليس على استئناف المفاوضات على المسار السوري. ويعتقد اركان الادارة ان تدخلاً مباشراً مع الرئيس كلينتون وقيامه بجولة مكوكية بين دمشق وتل ابيب كفيلان باختتام وجوده في البيت الابيض باحتفال كبير لتوقيع اتفاق سلام سوري - اسرائيلي شبيه باتفاق كامب ديفيد. بل انهم مقتنعون تماماً بأن لا افق لاتفاق فلسطيني - اسرائيلي جديد حول قضايا الحل النهائي خلال عام، وان تجديد التزام الدول المانحة تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، تحسين وضعها على الارض جزئياً وتدريجياً، وعقد لقاءات بين فترة واخرى مع قيادتها واسماعها كلاماً جميلاً، تكفي لشراء صمت السلطة على تخليهم عن تعهداتهم وضماناتهم السخية التي قدموها للفلسطينيين، ولإدامة عملية السلام الى ما يشاء الله، وما شاء باراك. واذا كان تفعيل دور الادارة الاميركية باستقامة، وتحريك الموقف العربي الراكد، من الأمور الخارجة عن ارادة القيادة الفلسطينية، فلا شك في ان صمود الموقف الفلسطيني بين المطرقة الاسرائيلية وسندان الادارة الاميركية قدر لا مناص منه في هذه المرحلة العصيبة، وهذا ممكن اذا تم التحلي بصبر صاحب الحق وعناده في وجه جلاديه، وباتخاذ مواقف تفاوضية ثابتة، وبالصمود عند موقف محق خلاصته لا لاتفاق الاطار التي يطلبه باراك قبل الاتفاق على جدول زمني لتنفيذ قضايا الحل الانتقالي. فتأزيم مسيرة السلام على مسارها الفلسطيني، ورفع الصوت الفلسطيني الرافض علناً للموقف الاميركي المتواطئ مع باراك، ضرورات تفاوضية حيوية قبل انطلاق قطار السلام من جديد على المسارين السوري واللبناني. وضرورية لتفعيل دور دول اوروبا والأمم المتحدة في معالجة القضية الفلسطينية، وتحريك الرأي العام العالمي في مرحلة الانتخابات الاميركية. والضغط على ادارة الرئيس كلينتون لزيادة تدخلها على المسار الفلسطيني والوفاء بتعهداتها وترجمة رسائل ضماناتها بمواقف عملية قبل تحولها في نهاية عهدها الى "بطة عرجاء". وقد تساهم في اخراج الوضع العربي والفلسطيني الرسمي والشعبي من سباته العميق الغارق فيه منذ مدة طويلة. ولا احد يستطيع اتهام الفلسطينيين بالتطرف، وتوريط العرب في مواجهة مع الادارة الاميركية اذا تمسكوا بكامل حقوقهم التي نصت عليها الاتفاقات وقرارات الشرعية الدولية. ويخطئ من يعتقد ان زيارة دنيس روس للمنطقة قد تعيد الامور الى نصابها الصحيح "تشيل الزير من البير". او ان لقاء كلينتون - عرفات - باراك في اوسلو مطلع تشرين الثاني نوفمبر لتخليد ذكرى رابين سيحدث تغييراً جوهرياً في توجهات الادارة الاميركية وفي المواقف الاسرائيلية التي لمسناها منذ فوز باراك بالانتخابات. لا بل سيتعرض الطرف الفلسطيني هناك لضغوط اميركية وابتزازات اسرائيلية للدخول مباشرة في مفاوضات خاصة هدفها التوصل الى "اتفاق اطار الحل النهائي"، التي يرغب فيها باراك، او "اعلان مبادئ" يتضمن أسس هذا الحل، على ان ينجز كل ذلك قبل منتصف شباط فبراير المقبل وقبل الاتفاق على استكمال تنفيذ قضايا المرحلة الانتقالية. وسينسى الطرفان الدروس المهمة المستخلصة من الصراع، التي اكدت ان الهروب اليوم من دفع الاستحقاقات الكبيرة يقود الى الاصطدام بها لاحقاً. وان الحلول المفروضة لا تصنع سلاماً دائماً وتبقى جذور الصراع ومحركاته قائمة. الى ذلك لا حاجة لذكاء خارق حتى يستنتج المرء ان لا افق لحل سريع الا اذا اذعن الفلسطينيون لمواقف باراك وقبلوا بتصوراته. ولا أفق لتقدم جدي في المفاوضات الا اذا مررت القيادة الفلسطينية قراره الاخير بشأن الاستيطان. وان استمرار الصمت الفلسطيني والعربي على الموقف الاميركي المنحاز لاسرائيل لا يساهم في تعديله، والخضوع لرغبات وضغوط ادارة كلينتون يعفيها من مسؤولياتها والتزاماتها. ونتيجة ذلك كله ستكون ضياع مزيد من الأرض ومعها كل الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الاتفاقات المرحلية، وبخاصة جدولة "عودة النازحين، والانسحاب من كل اراضي الضفة والقطاع باستثناء المستوطنات والمواقع العسكرية" وتغطية موقف النظام الرسمي العربي العاجز عن الحركة والفعل، وارباك الموقف الاوروبي المرتبك اصلاً وشلّ دور قوى السلام الاسرائيلية وتعزيز اطروحات القوى المتطرفة وتعبيد الطريق امام توجهاتها الاستعمارية التوسعية ومنح باراك مداخل ومخارج واسعة لعدم الانسحاب في 20 كانون الثاني يناير القادم من 6.1 في المئة من اراضي الضفة والقطاع ونقلها من السيطرة الاسرائيلية الكاملة الى السيادة الفلسطينية الدائمة. لا شك في ان البيانات والتصريحات النارية التي صدرت او قد تصدر عن أعلى المستويات الفلسطينية الرسمية والحزبية ضد قرار باراك تعزيز الاستيطان، مهمة ومفيدة جداً، خصوصاً اذا صمد اصحابها عند مواقفهم. وتتضاعف قيمتها اذا صيغت في اوراق فلسطينية توزع على المعنيين بصنع السلام في المنطقة كموقف فلسطيني رسمي، ويتحول الى سياسة ثابتة تطرح في الاجتماعات والاتصالات الجارية بشأن استئناف المفاوضات. وايضاً اذا شمر الجميع عن سواعدهم لاسنادها بخطوات منتظمة وملموسة على الارض، وتحويل الفصل الاقتصادي بين الشعبين، الذي ينادي به باراك، الى مكسب وطني فلسطيني يعجل فرض الاستقلال السياسي. وبديهي القول ان الاكتفاء بخوض معركة انتزاع الحقوق بالتصريحات وفي اطار اللقاءات والمفاوضات التي تعقد على أعلى المستويات وداخل غرف المفاوضات فقط لا تؤمن الظروف المطلوبة لكسبها. وجمود مواقف اطراف النظام السياسي الفلسطيني عند حدود القول ان كل المستوطنات القديمة والحديثة غير شرعية يكرس وجود الجديد ويمتن اوضاع القديم. ولم اجد تفسيراً مقنعاً لتقاعس السياسيين والمثقفين والفلاحين وجماعات حقوق الانسان والدفاع عن الأرض عن الحركة ضد الاستيطان! وحبذا لو يفسرون مواقفهم. * كاتب سياسي فلسطيني.