أخيراً وبعد انتظار استمر أكثر من اربعة شهور تمت الانتخابات الاسرائيلية، وفاز ايهود باراك بكرسي رئاسة الوزراء. ولا خلاف على ان السقوط المريع لبنيامين نتانياهو جنب المنطقة السقوط في دوامة جديدة من العنف والدمار، وأحيا الأمل ببقاء عملية السلام على قيد الحياة وهيأها للانتقال من غرفة العناية الفائقة الى غرف المفاوضات. بل خلق ظروفاً محلية واقليمية ودولية مؤاتية لتحقيق تقدم جوهري في المفاوضات على مساراتها الثلاثة، الفلسطيني والسوري واللبناني، وزاد قدرة الراعي الاميركي على القيام بدوره والتأثير في مسيرة التفاوض وتوجيه حركتها اللاحقة بصورة أفعل. فهل يعلن المجلس المركزي الفلسطيني في اجتماعه الثاني في حزيران يونيو المقبل قيام الدولة الفلسطينية والشروع في بسط السيادة على الأراضي التي احتلت عام 1967؟ وهل يكون باراك قائداً سياسياً فذاً صانعاً للتاريخ، أم يبقى عسكرياً قاده تاريخه الأمني وتخبط ليكود وحماقة نتانياهو الى كرسي رئاسة الوزراء بعدما اتقن الهجوم بالدبابات وقيادة العمليات الخاصة براً وبحراً وجواً...؟ أسئلة كبيرة كثيرة تنتظر القيادتين الفلسطينية والاسرائيلية. ولا يمكنهما التهرب طويلاً من الإجابة عليهما، خصوصاً ان الشارعين الفلسطيني والاسرائيلي يلحان على تلقي الجواب، وتنتظره منهما كل الدول المعنية بصنع السلام في المنطقة. وهما ستصطدمان بهذه الاسئلة أوائل تموز يوليو المقبل في أول لقاء رسمي يجمعهما مع الرئيس كلينتون. يدفع تاريخ باراك العسكري وقصر فترة عمله السياسي والديبلوماسي المراقبين الى التردد في الإجابة الفورية عن الأسئلة المطروحة، ويخشون التسرع في اطلاق أحكام جازمة والوصول الى استنتاجات خاطئة. قد يقول قائل: فترة وجود الرجل في الحكم لم تبدأ بعد، ولم يشكل حكومته حتى الآن، وفترة قيادته للحزب لا تزال قصيرة، ولا يمكن إنصافه إذا اعتمدت كمقياس لمحاكمته. إلا ان التدقيق في مواقفه إبان خدمته العسكرية كرئيس أركان، وفي تعهداته التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية، ينهي خلط الوقائع بالاحلام، ويسهل استقراء توجهاته الرئيسية المتعلقة بعملية السلام، ويبدد الأوهام حول رغبته في حل أزمة المفاوضات على مسارها الفلسطيني حلاً جذرياً، وتصليح الخراب الذي ألحقه نتانياهو بالعلاقة بين الشعبين. خاض باراك معركته الانتخابية تحت شعار "اسرائيل واحدة ودولة للجميع، وباراك رجل الأمن والسلام". وانتخب باعتباره رجل المؤسسة العسكرية الحاصل على أكبر قدر من الأوسمة، وليس لكونه محنكاً فذاً في فنون السياسة. وجاء تفوقه على نتانياهو بفارق كبير من الأصوات بمثابة تفويض قوي للأمن أولاً... وللسلام عاشراً. التزم أمام ناخبيه ومنافسيه موقفين سياسيين عمليين كبيرين: الأول اجراء استفتاء شعبي حول أي اتفاق يتم التوصل اليه مع الفلسطينيين في شأن قضايا الحل النهائي. والثاني، سحب قوات الجيش الاسرائيلي من جنوبلبنان خلال فترة أقصاها عام واحد. وكرر التزامه في شأن لبنان في أول كلمة ألقاها بعد فوزه في الانتخابات ولم يحدد تاريخاً لانتهاء مفاوضات الحل النهائي علماً بأن تاريخها انتهى في 4 أيار مايو الجاري. وهناك في قيادة "العمل" واليسار الاسرائيلي من يعتبر الاتفاق مع سورية وليس الحل النهائي مع الفلسطينيين هو المدخل الرئيسي للانفتاح على العرب وبناء الشرق الأوسط الجديد الذي حلم به بيريز. اعتقد ان باراك سيولي مسألة الأمن أهمية استثنائية طوال عهده، وسيتوجه الى الولاياتالمتحدة الاميركية مطلع تموز وفي جعبته اقتراح باستئناف المفاوضات دفعة واحدة على أربع مسارات متوازية: - الأول مع اللبنانيين هدفه وضع ترتيبات أمنية تمكن الجيش الاسرائيلي من الانسحاب من جنوبلبنان خلال عام، وفك ارتباطه بعملائه في "جيش جنوبلبنان". - والثاني متابعة المفاوضات مع السوريين من حيث توقفت في عهد رابين. - والثالث مع الفلسطينيين يركز فيه المفاوضون على تنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر وبقية قضايا المرحلة الانتقالية. - والأخير يتعلق بقضايا المرحلة النهائية. ويمكن القول منذ الآن ان باراك غير مستعد لتقديم تنازلات في وقت واحد على الجبهات الثلاث، السورية واللبنانية والفلسطينية، لأن ذلك خطر على أمن اسرائيل ويفوق قدرة الاحتمال عند المجتمع الاسرائيلي المنقسم على نفسه. واذا كانت تركيبة حكومته هي المقياس لتحديد وجهة حركته الرئيسية، فشبه الاجماع الاسرائيلي على ضرورة الانسحاب من جنوبلبنان يشجعه على الاندفاع نحو التوصل الى اتفاق حول الجولان وآخر حول جنوبلبنان. ويدرك باراك ان الانطلاق من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات السورية - الاسرائيلية، التي يعرفها جيداً بحكم مشاركته الشخصية فيها، يمكنه من تحقيق هذا الهدف خلال عام وليس أكثر. أما بالنسبة الى المفاوضات مع الفلسطينيين حول قضايا المرحلة الانتقالية فتتركز على تنفيذ مستحقات المرحلة الانتقالية المتأخرة وبقايا اتفاق واي ريفر، وسيعمل على برمجة تنفيذها في جرعات صغيرة ودفعات متباعدة. وسيلمس المفاوض الفلسطيني تشدداً اسرائيلياً في شأن الانسحاب من الأرض لا يقل عما لمسه في عهد نتانياهو. فباراك نفسه هو صاحب فكرة تقسيم أرض الضفة والقطاع الى مناطق A,B,C ومرحلة الانسحاب منها على فترات متباعدة، ونجح في حينه بإقناع رابين بها خلال فترة رئاسته أركان الجيش الاسرائيلي. اما مفاوضات الحل النهائي فستغرق منذ الجلسة الأولى في قضايا شائكة ومعقدة، وسيعمل باراك على اخضاعها للمماطلة والتسويف. وسيصطدم المفاوض الفلسطيني بمفاهيم باراك الأمنية ولاءاته "الليكودية" الشهيرة: "لا لعودة اللاجئين، لا للانسحاب الى حدود 1967، لا تنازل عن القدس كعاصمة أبدية لاسرائيل". وبإصراره على بقاء التجمعات الاستيطانية الكبيرة في الضفة والقطاع، وضمها الى اسرائيل باعتبارها الترجمة لنظريته الداعية للفصل بين الشعبين. وإذا كان انجاز القليل من قضايا المرحلة الانتقالية غير المعقدة استغرق 8 سنوات، ففي الإمكان تقدير عدد سنوات المفاوضات في عهد باراك حول قضايا الحل النهائي. وبصرف النظر عن الكلام الاميركي المعسول الذي سمعته القيادة الفلسطينية قبل الانتخابات الاسرائيلية وبعدها حول تسريع مفاوضات الحل النهائي، فاقتراحات باراك في شأن استئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني تلقى ترحيباً حاراً من أركان الادارة الاميركية. وتلبي متطلبات توافق سياسة حزب العمل مع المصالح الاميركية في المنطقة، وتتلائم مع توجهاتها السياسية القائمة على احياء عملية السلام على كل المسارات. وكانت وزيرة الخارجية أولبرايت قالت يوم 8 ايار مايو امام جماعة يهودية اميركية "بعد الانتهاء من الانتخابات الاسرائيلية سنحض الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي ومن دون مزيد من التأخير على تنفيذ الالتزامات المستحقة من اتفاق واي ريفر". وأضافت: "سنكون مستعدين لبذل جهود جديدة لتحقيق التقدم على المسارين السوري واللبناني". والواضح ان أولبرايت ومساعديها مقتنعون بأن تنفيذ بقايا واي يرضي القيادة الفلسطينية بصورة أو أخرى. ويعتقدون ان استئناف المفاوضات بين الطرفين، وتحسين الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة مع توسيع اضافي محدود لمناطق نفوذ السلطة، تكفي لتعزيز دور السلطة في الشارع وبقاء الأوضاع على ما هي عليه فترة طويلة. وأظن أنهم لن يغيروا مواقفهم وقناعاتهم من دون أزمة حقيقية في المفاوضات ومن دون تأزيم جدي للأوضاع على الأرض. وعلى اعضاء المجلس المركزي والسلطة الوطنية والمفاوضين الفلسطينيين ان يتذكروا في اجتماعهم في غزة الشهر المقبل، ان فوز حزب العمل في الانتخابات يحدث تغيراً في مواقف عدد من الاحزاب العمالية والاشتراكية الحاكمة في عدد من الدول الأوروبية، ويجلب ضغوطاً اميركية على الفلسطينيين، هدفها انتزاع موافقتهم على منح حكومة العمل وقتاً كافياً لتثبيت أقدامها في السلطة، وأخذ ما يعرضه باراك من دون ازعاجه والإثقال عليه بطلبات كبيرة، وبالتالي طي صفحة اعلان الاستقلال وبسط السيادة الى ما بعد الانتخابات الأميركية أواخر سنة ألفين. وإذا كانت المصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض على السلطة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ايلاء وقف زحف الاستيطان أهمية قصوى، وتحرير ما يمكن تحريره من الأرض وأخذ ما يمكن أخذه من بقية الحقوق الفلسطينية ومراكمته فوق ما انتزع سابقاً، وعدم تحمل مسؤولية تدمير عملية السلام، والعمل على تطوير مواقف الحلفاء، وتوسيع جبهة الاصدقاء، وتجنب التصادم مع الإدارة الاميركية... الخ، فإن المصالح ذاتها تفرض عليها تحضير أوضاعها لمعركة ديبلوماسية قاسية ومفاوضات طويلة وصعبة والتمسك بحقها في اعلان قيام الدولة وبسط السيادة على الأرض من دون تأخير اضافي، وعدم المراهنة على دور الإدارة الاميركية في بعث الدولة الفلسطينية الى حيز الحياة في عهد حزب العمل، خاصة اذا حافظ باراك على موقفه المعلن من الدولة. * كاتب سياسي فلسطيني.