كتب مارسيل بروست: "ان الروائع الأدبية تبدو دوماً وكأنها كتبت بلغة أجنبية". لا أسوق هاته العبارة للاستدلال على طبيعة الكتابة الأدبية، وانما لكونها تبرز بشكل واضح علاقة اللغة الواحدة بما يسمى لغة أجنبية عنها. فليس الأجنبي عن اللغة دوماً لغة خارجية تتهدد اللغة وتعترض عليها. الأجنبي يقطن اللغة ذاتها. ان اللغة قد ترقى الى مستوى تبتعد فيه عن ذاتها وتخالف نفسها. بهذا المعنى فاللغة عش الاختلاف بأكثر من معنى. والازدواجية ليست لعنة تصيب اللغة من خارج وانما "ميزة" تشكل اللغة كلغة. لست أعني بهذا الكلام المدافعين عن نقاوة اللغة العربية وطهارتها وضرورة حمايتها من "الاستلاب" و"غزو" الآخر، وانما أعني أساساً اولئك الذين يعتقدون أن الازدواجية هي اضافة لغات الى اللغة، وان التعدد هو تكثير الوحدات، وأن "الحرب" بين اللغات صراع خارجي تدخل فيه اللغة في عراك مع ما هو أجنبي عنها "براني" غريب. لا غرابة اذن ان يذهب هؤلاء حتى الاعتقاد بأن اللغة تحمل قوتها في ذاتها، وان هناك تفاضلاً طبيعياً ماهوياً بين اللغات، فتجدهم يشعرون أنهم "في الحقيقة" ان هم تكلموا لغة بعينها، وأنهم خارج مجال الصدق، بل الأناقة والجمال ان هم تكلموا غيرها. ربما أمكن من الناحية اللسانية البحت تطبيق العبارة التي يطلقها هنري بوانكري على الهندسات من أنه ليست هناك هندسة أفضل من أخرى، كل ما في الأمر انها أكثر منها ملاءمة" لعل هذا يصدق أيضاً وربما أساساً حتى على اللغات، لسانياً على الأقل. وقد سبق للفيلسوف الأندلسي ابن حزم ان بيّن أنه لا فضل لأية لغة على أخرى، "فلا جاء نص في تفضيل لغة على لغة". لا يعني ذلك بطبيعة الحال انه لا تدرج بين اللغات. فاللغات كما قلنا تعيش دوماً حروباً لا تنفك ولا تنقضي. ومن شأن الحروب بطبيعة الحال ان تخلف الغالب والمغلوب وتخلق التفاوت والتفاضل. لكن هذا تفاوت علائقي وليس تفاضلاً طبيعياً ماهوياً. بل ان هذا التفاوت والاختلاف قد يسكن اللغة ذاتها، ويجعلها، كما قلنا، في بعد عن نفسها، يجعلها "لغة أجنبية" مزدوجة تعددية. إذا تحررنا إذن من المفهوم الميتافيزيقي عن الازدواجية والتعددية، وجعلنا الآخر يقطن الذات ويجعلها في بعد نفسها، وأقحمنا "الأجنبي" داخلاً، وجعلنا الغريب يسكن المألوف، فاننا نتخلص، في الوقت ذاته، من وهم الوحدة الطاهرة واللغة الخالصة، لكن أيضاً وربما أساساً، من وهم الازدواجية كمجرد "فتح الباب للسان أجنبي بغية تلقيح اللغة". وحينها ستغدو الازدواجية ابداعاً في اللغة، قد يكون كتابة أدبية كما قد يكون ترجمة. وفي الحالين فإنه يكون مولداً للهوية مغذياً للآداب مطعماً للثقافة محولاً للغة. * كاتب مغربي