خسر العرب والمسلمون هذا العام ثلاثة من أبرز قادتهم. وفي حين ان الخسارة العامة برحيل الملك حسين والشيخ عيسى بن سلمان والملك الحسن لا تعوض، فانني اشعر بفداحة خسارتي الشخصية ثلاثة رجال كنت اعتبرهم اصدقاء بما بيننا من أمر عام وخاص. نذكر حسنات موتانا، ونذكر الحقيقة ايضاً، فالقادة الثلاثة مثلوا اكثر من مئة سنة في الحكم، او مئة سنة من الخبرة المتراكمة والحكمة والحنكة. غير انني رب ابلي، وأذكر ما خسرت انا برحيل الحسين وعيسى والحسن. في سنة 1971 اجريت مقابلة صحافية للملك حسين في عمان كانت اول مقابلة اجريها مع رئيس دولة. وهو أنساني بحسن استقباله وصبره، وعبارته الأثيرة "يا سيدي" انني بحضرة ملك يواجه تحديات مصيرية بدأت بخسارة الضفة الغربية، وانتهت في حينه بالمواجهة مع المنظمات الفلسطينية في عمان في ايلول سبتمبر 1970، وفي احراش جرش في حزيران يونيو من السنة التالية. كنت مع الزميل محمد عنان، ومعنا مصور رسمي انتهى من مهمته وغادر الغرفة. وأخرجت كاميرا صغيرة تشبه العلبة من نوع كان رائجاً في تلك الأيام، وطلبت من الزميل ان يصورني مع الملك. الا ان الكاميرا لم تعمل، وأحرجت فأخذها الملك من يد الزميل العنان وضغط على نور تصوير مكعب لاحظ انه خارج من مكانه، فعملت الكاميرا، وقال لي الملك ان استشيره اذا تعطلت اي اداة كهربائية عندي لأن اللعب بهذه الأدوات من هواياته. وكانت آخر جلسة لي مع الملك حسين امام التلفزيون، ومحطة سي. ان. ان تذيع مؤتمراً صحافياً للرئيس مبارك ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، وهو يعلق على ما يسمع. كان رأي الملك حسين في نتانياهو سيئاً للغاية، وقد سجلته في حينه، الا انه تعامل معه اضطراراً بصفته الرسمية، او كما نقول نحن "الحق الكداب لحد الباب". بين 1971 و1999 كانت لي جلسات مع الملك حسين لا استطيع عدّها اليوم، وبالاضافة الى المقابلات المنشورة حملت له رسائل ونقلت عنه ردوداً. وأهم من هذا كله انني شعرت دائماً بأن لي في عمان صديقاً سأجده اذا احتجت اليه. الشيخ عيسى بن سلمان رأيته للمرة الأولى في اواخر 1960 او اوائل 1961، في عيد الفطر، والناس يهنئون والده المغفور له الشيخ سلمان في قصر بين المنامة وعوالي. الا انني كنت طالباً صغيراً امر مروراً عابراً في البحرين، ولم تتوطد علاقتي بالأمير الطيب حتى اواخر السبعينات، واستمرت من دون انقطاع حتى وفاته. ربما كان الشيخ عيسى الحاكم الوحيد في العالم الذي خلا عقله وقلبه من ذرة حقد واحدة. والعادة في المقابلات الصحافية ان يسمع الصحافي على هامش الكلام المسجل للنشر كلاماً آخر، قد يختلف كثيراً عن المنشور. الا انني حاولت مع الشيخ عيسى وعييت، وعملت بحكم المهنة لأطلع منه بأي كلام سلبي عن القائمين بأعمال العنف في البحرين، الا انه قال لي خارج المقابلة ما قال ضمنها، وهو "انهم أبناؤنا، وقد ضلل بهم..." فهذا اكثر ما استطاع ان يقول. وعندما وقع الخلاف المعروف مع قطر حاولت مرة بعد مرة ان اطلع منه برأي سلبي او انتقاد، ما يصلح للنشر، الا انه اصرّ في الحديث الخاص، كما اصرّ في المقابلات المنشورة، على ان القطريين حكومة وشعباً "اهلنا واخواننا"، وان الخلاف "غمامة صيف ستنقشع". وكان آخر ما سمعت منه عن قطر، وعن الشيخ حمد بن خليفة شخصياً، كلاماً طيباً، ونحن في فندق في باريس، وتحداني ان انتظر لأرى كيف سيحل البلدان خلافاتهما من دون محاكم. ما جمع بين الشيخ عيسى والملك الحسن كثير، الا ان القدس كانت اهم رابط، فلا اذكر انني اجتمعت يوماً مع الشيخ عيسى من دون ان يحدثني عن القدس او يسألني عنها، في حين ان القدس كانت مهمة رسمية للملك الحسن بتكليف من العرب والمسلمين. الملك الحسن عرفته منذ أوائل السبعينات، ولكن كلمته للمرة الأولى سنة 1974، وهو يرأس قمة الرباط المشهورة. وهو أدار الجلسات بحكمة وحزم، ووقف حَكماً بين وزيري الخارجية في حينه عبدالحليم خدام واسماعيل فهمي، ثم بين الملك حسين والسيد زيد الرفاعي من جهة، وأبو عمار ورجاله. في سنة 1975 اعطاني الملك الحسن مثلاً على هيبة الحكم، فقد كنا نحضر مؤتمراً صحافياً عن الصحراء الغربية، مع انطلاق المسيرة الخضراء، وسأله صحافي سفيه بأي حق يقول انه مستعد لاقتسام موارد الفوسفات مع اسبانيا، مع ان هذه "حقوق" عربية. وغضب الملك وقال بالعربية والفرنسية "بأي حق وبأي حق... أكيل دروا؟" وأسرع السائل وغيره يقولون للملك انه يسأل عن الأسس القانونية لموقف الملك، وقد تغير السؤال تماماً بعد نظرة غضب واحدة من الملك. لا أحد يستطيع الحديث عن الأسس القانونية مثله. فقد كان هذا تخصصه الثاني، بعد الحكم أميراً للمؤمنين. وكم شعرت بفخار شخصي وأنا الى جانبه في مكتبة جامعة جورجتاون وهو يحدث رئيس الجامعة وأساتذتها حديث الند للند، ويبدي معرفة في القانون الدولي كمعرفته العميقة بالقانون الاسلامي. ماذا أزيد؟ أدعو ان تكون وفاة الملك الحسن خاتمة الأحزان العامة، وحزني الشخصي هذا العام.