احتفظ بصورة لي مع الملك حسين كتب عليها بخطه إهداء يقول "الى أخي العزيز جهاد الخازن، مع صادق المحبة وأبلغ التقدير وأطيب تمنياتي. وبعد ذلك السنتان 1973 و1995"، وهما سنة أخذ الصورة وسنة كتابة الإهداء. بدا الملك حسين في الصورة وهو يحتفط بأكثر شعره الأسود، وكان يرتدي قميصاً كاكي اللون، قصير الكمين، برزت منه عضلاته، فقد كان رياضياً مرموقاً، وهو حمل في وسطه مسدساً بشكل معكوس، إذ كان المقبض الى الأمام. في تشرين الأول اكتوبر الماضي كنت في نيويورك لحضور جانب من دورة الجمعية العامة للامم المتحدة. واقترح الصديق طاهر المصري، رئيس وزراء الأردن السابق ورئيس مجلس النواب السابق، ان أذهب معه الى واشنطن للسلام على الملك المريض. واخترت ان أبقى في نيويورك، فقد منت رأيت صوراً للملك حسين على التلفزيون وقد هدّ كيانه المرض، وفضلت ألا أراه شبحاً من الرجل الذي عرفت، لتبقى في عقلي وقلبي صورة الملك الرياضي. رأيت الملك حسين المرة الأولى في الخمسينات، وهو يسابق على طرق جبل لبنان المتعرجة في سيارة "مرسيدس سبور" ويفوز. إلا أن بدء معرفتي الشخصية به يعود الى سنة 1971 عندما أجريت والصديق محمد العنان مقابلة صحافية معه لپ"الحياة" و"الديلي ستار" في قصر بسمان. وهو لم ينس هذه المقابلة يوماً، فقد كان معزولاً في العالم العربي بعد مواجهته مع المنظمات الفلسطينية في الأردن، أولاً في عمان سنة 1970، ثم في أحراج جرش سنة 1971 حيث قتل أبو علي سلامة. وكانت المقابلة جرأة واضحة من الصحافيين الشابين لم تغب عن الملك. واكتب اليوم للتاريخ وأقول ان المنظمات الفلسطينية اعتدت على الملك حسين، وحاولت انتزاع السلطة منه، بعد ان احتضنها وساعدها في جهادها ضد اسرائيل، وهي رفعت شعار "كل السلطة للوطنيين"، وانجرت "فتح" رغماً عنها وراء المنظمات المتطرفة، فكانت المواجهة المؤسفة التي انتهت بطرد هذه المنظمات من الأردن، وانتقالها الى لبنان. وما حدث في لبنان بعد ذلك، كان يمكن ان يحدث في الأردن... أو سورية، لولا قوة الحكمين فيهما. هذا تاريخ أنا شاهد عليه، فقد كنت أزور الأردن يوماً بعد يوم، وهو التاريخ الصحيح. وليس الأمر اليوم ان الملك حسين مات "واذكروا محاسن موتاكم"، فالملك حسين شخصية تاريخية وشخصية عامة، وأحاول أن أكتب عنه بتجرد، لذلك سأسجل من تجربتي الشخصية معه، على امتداد عمرينا، ما له وما عليه، ولعل الله يهديني الى الصواب. الدقة التاريخية تقتضي القول ان الجيش الأردني هو الذي انتصر في معركة الكرامة على الاسرائيليين، وقد حضرت نهاية المعركة، غير ان المنظمات الفلسطينية فازت بدعاية المعركة، وبنت رصيدها عليها، مع ان دورها فيها كان دوراً مسانداً... مرة أخرى أكتب شاهداً، وقد سرت خلال معركة الكرامة محتمياً وراء مدفع مضاد أردني على عربة كانت تدور على شكل العدد ثمانية بالانكليزية، والمدفع يطلق النار على الطائرات الاسرائيلية وأهداف أخرى. على كل حال، ربما كانت أهم مقابلة أجريتها للملك حسين هي الثانية سنة 1973، عندما أخذت الصورة معه، واشترك فيها أيضاً الزميل العنان، فقد كنت رئيس تحرير "الديلي ستار"، وهو المدير المسؤول لشقيقتها "الحياة". وبدأت المقابلة بحادث يستحق الرواية، فقد كان محمد العنان يردد دائماً عبارة "الله يمضيها على سلامة"، وكنا اشترينا آلة تسجيل جديدة، وجربناها في الفندق حتى أتقنا استعمالها، ثم ذهبنا الى القصر الملكي. وضغطت على الزر لبدء التسجيل، فإذا بصوت محمد العنان يقول "الله يمضيها على سلامة يا جلالة الملك..." واحرجنا، وسألنا الملك عن السر، فقلت له ان العنان استخدم هذه العبارة لاختبار عمل آلة التسجيل، ويبدو اننا لم نعرف كيف نمحوها عن الشريط. في هذه المقابلة المنشورة قال لي الملك حسين "إذا قررت الدول العربية اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للفلسطينيين فأنا موافق". واعترف للقراء اليوم، كما اعترفت للملك حسين بعد ذلك، بأنني لم أصدقه، فالاعتراف هذا كان بداية فك الإرتباط بين الضفتين الشرقية والغربية، وهو ما اعتبرته مستحيلاً في حينه، أو اعتبرت انه يستحيل ان يقبل به الملك حسين. غير ان الملك حسين قبل الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للفلسطينيين بعد ذلك بشهور قليلة خلال مؤتمر القمة سنة 1974 في الرباط. كان رئيس وزراء الأردن تلك السنة السيد زيد الرفاعي، وهو صديق استخدمت جناحه لإرسال الأخبار الى بيروت. وعقد مؤتمر القمة في فندق في الرباط أقامت فيه "الحياة" قبل سنتين حفلة كبرى بعد مؤتمرها السنوي في المغرب. ووقفت في زاوية من قاعة كبرى، وقفت فيها قبل حوالى ربع قرن مع ملك الأردن، وتذكرت أنني نسيت أنه ملك وأنا أسمع قرار القمة، فقلت له "والله عملتها". وابتسم وقال بتواضعه المعروف "كان عندك شك؟". الملك حسين كان الملك الوحيد في العالم الذي يخاطب محدثه بعبارة "يا سيدي..." وأكمل غداً.