السنة الماضية فقدت صديقاً وزميلاً هو محمد عنّان من دون أن أدري، وهذه السنة فقدت صديقاً وزميلاً آخر هو توفيق مشلاوي، أيضاً من دون أن أدري، فالغربة في المَثَل «تضيِّع الأصل»، وأجدها تضيّع الإنسان، فهو غريب في الغرب أو الشرق، وغريب عندما يعود الى وطنه. كنت في بيروت قبل أسابيع، وفي جلسة ضمّت سياسيين وصحافيين، سمعت واحداً يقول «محمد عنّان الله يرحمه»، وسألته بقلق هل توفي محمد عنّان، وهو أكد لي أنه انتقل الى جوار ربه قبل شهر، ويبدو أنني كنت مسافراً فلم أقرأ نعيه. محمد عنّان كان المدير المسؤول لجريدتنا هذه («الحياة») في بيروت عندما كنت رئيس تحرير شقيقتها «الديلي ستار»، وكنا زميلَيْ سفر الى المؤتمرات والقمم العربية والمقابلات الخاصة. لعل أهم قمة شاركنا في نقل أخبارها الى جريدتنا كانت قمة الرباط سنة 1974، فقد كانت لمحمد اتصالات واسعة، ودبّر لنا أن نكون من أعضاء الوفد السعودي، وحضرنا المؤتمر من الداخل فيما ألف صحافي أجنبي في الخارج حول البركة، والهواء والبرد يلعبان بهم. كان معنا من «أعضاء» الوفود أيضاً الزميل سليم اللوزي مع وفد عُمان، والزميل عزت شكري المدير المسؤول لوكالة رويترز، مع وفد المغرب نفسه بواسطة من الأخ أحمد بن سودة رئيس الديوان الملكي في حينه، رحمه الله أيضاً وأيضاً. وكنت مرة ومحمد عنّان في مطار روما لتغيير الطائرة وإكمال رحلتنا الى المغرب، حيث كانت لي مقابلة مع الملك الحسن الثاني رحمه الله، ووجدنا السياسي اللبناني البارز عادل عسيران، رحمه الله، وقد وصل متأخراً لإكمال رحلة الى بيروت، ورفض محمد أن نغادر المطار قبل وصول مدير مكتب طيران الشرق الأوسط للاعتناء بعادل بك، الذي شغل منصب رئيس مجلس النواب ووزير الدفاع غير مرة. محمد عنّان صديقي وزميلي على امتداد عقود، ثم يرحل عنا فلا أعرف عن موته إلا بعد أشهر. صداقتي وتوفيق مشلاوي سبقت العمل، فبيت أسرته كان يلاصق بيت جدي في حدث بيروت، وهو تخرّج في الجامعة الاميركية في بيروت وعمل سنة معلماً في البحرين، حيث تزاملنا ذات صيف قبل أن أدخل الجامعة بعد الشهادة الثانوية. كان يقول لي «البحرينيات حلوات»، وأسأله كيف يعرف ذلك ونحن لا نرى منهن شيئاً من بين حجاب ونقاب وثوب أسود فضفاض؟ ويرد باسماً أنه توصّل الى جمالهنّ من رؤية كاحل القدم. توفيق عمل محرراً في «الديلي ستار» وأنا رئيس نوبة في رويترز، وصدرت جريدة منافسة بالإنكليزية، فقرر رئيس تحرير «الديلي ستار» أن يرد عليها بالصدور سبعة أيام في الأسبوع. وكان أن عملت «رئيس تحرير يوم الأحد» حتى يبقى لرئيس التحرير الأصيل يوم عطلته الأسبوعية، وعندما تفرّغت لرئاسة تحرير «الديلي ستار» بقي توفيق مشلاوي معنا سنوات، ثم أصبح يراسل صحفاً أجنبية ويدير مكتب أخبار شراكة مع زميل آخر. كان توفيق مشلاوي يعاني ضعفاً في سمعه، وأجرى عملية يوماً وجاء الى مكاتب الجريدة، وسأله عماد شحادة (أيضاً زميل عزيز عمل معي في واشنطن وتوفي هناك): كيف العملية؟ وردَّ توفيق: أربعة ونصف، فقد اعتقد أن عماداً يسأله عن الساعة. وضحك عماد وقال: العملية ما نجحت. هذا الصديق العزيز الذي شاركني العمل مع الأستاذ غسّان تويني لإصدار «النهار آراب ريبورت»، توفي فلم أسمع الخبر إلا وأنا أقرأ مجموعة من مقالات الصحف الأميركية التي تحتفظ لي بها السكرتيرة أثناء سفري، وفوجئت أن بينها مقالاً كتبه ديفيد أغناشيوس في «واشنطن بوست» عنوانه «صحافي من نوع خاص»، ينعى فيه توفيق مشلاوي ويتحدث عن عمل توفيق مساعداً له في جمع الأخبار في بيروت ويطري كثيراً مهنيته ودقته وموضوعيته. توفيق كان كما قال ديفيد وأكثر، ومحمد عنّان وعماد شحادة مثله، والغربة تضيع الأصل وتباعد بين الأصدقاء، فيرحلون عنا ولا ندري إلا متأخرين.