أعرف قبل أن أبدأ انني مهما كتبت سأظل مقصراً في حق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أو في وصف خسارتي الشخصية برحيله. الشيخ عيسى كان صديقي، مع كل الفروق بين رئيس دولة وكاتب صحافي. وفي حين لا أستطيع أن أدعي صداقة مع رؤساء دول كثيرين، فإنني لا أجد سوى الصداقة وصفاً لعلاقتي بالأمير الراحل. كنت يوم الجمعة القادم سأغادر لندن في طريقي إلى البحرين لمقابلة الشيخ عيسى. وكان الصديق العزيز وزير الاعلام محمد المطوع اتصل بيّ هاتفياً قبل شهر، وقال إن الشيخ عيسى سأل عني، وهو ينتظر ان أزوره في البحرين كما وعدته. وقلت إنه يسعدني ذلك، إلا أنني ذاهب إلى القاهرة، وسأحاول ترتيب زيارة البحرين فور عودتي إلى لندن. وهذا ما حدث، وتهاتفت والأخ الوزير واتفقنا على أن أصل إلى البحرين الجمعة على أن أقابل سمو الأمير صباح السبت، كعادتي في مقابلته في الصباح الباكر. وأكتب وأمامي برنامج السفر، كما تلقيته من شركة الطيران، وفي القلب غصة. فقد كان الأمير عرض عليّ موعداً السبت أو الاثنين من أي أسبوع، واخترت الأسبوع القادم، من دون أن أدري أن الموت سيسبقني إليه. لماذا لم أذهب الأسبوع الماضي، وقد كنت قادراً على السفر؟ هل أدرك الأمير أنه راحل فطلبني وأصدقاء آخرين ليودعهم؟ طريق الحسرات معبدة بكلمات من نوع "لو" و"ليت"، واكتب متأثراً وأقول ليتني ذهبت قبل أسبوع لجلسة أخيرة مع الأمير الطيب، فاغترف من معين حكمته وخبرته وصفائه ونقائه. رأيت الأمير عيسى للمرة الأولى وأنا طالب أزور خالي في البحرين سنة 1960، فقد ذهبنا إلى قصر للأمير الراحل سلمان على طريق عوالي لتهنئته، على ما اذكر، بعيد الفطر، ورأيت عنده الأمير الشاب عيسى، وكان يكبرني ببضع سنوات. وعندما حكيت للأمير عيسى بعد سنوات طويلة عن ذلك اللقاء، مال عليّ وقال هامساً: لا تفضح أعمارنا. وهو خلف والده في السنة التالية 1961. ولم أعد اذكر المرات التي قابلت فيها الشيخ عيسى، وهي مقابلات تراوحت بين الخاص والصحافي. إلا أنني اذكر ان المرة الأخيرة كانت في أيار مايو الماضي في فندق في باريس، وهو استضافني على عشاء وافطار قبل أن أسجل مقابلتي المنشورة معه. في تلك الجلسة دعاني لزيارة البحرين فرحبت بالدعوة، وكدت أفعل في أواخر تشرين الأول اكتوبر الماضي، لولا ان الأمير غادر البلد للعلاج. وعاد من دون أن ينسى دعوته الكريمة فجددها وكان ما كان. واختار الآن بضعة اسطر من زاوية لي عن الصديق الراحل طارق المؤيد، نشرت في 17 من الشهر الماضي، وكانت فيها إشارة إلى الشيخ عيسى: كنت مرة على موعد مع سمو الأمير الشيخ عيسى، وأخذتني سيارة الوزارة إلى مكتبه الرسمي بدل مجلسه، فوجدناه مغلقاً. وعدنا إلى الوزارة حيث كانت سيارة شرطة بانتظارنا، ووصلت في النهاية إلى الموعد متأخراً نصف ساعة. كان الأمير في الساحة الخارجية يسأل عني، فلا أحد يتأخر عن الأمير من دون سبب مهم، واحرجت كثيراً، وقلت إن السيارة الرسمية ذهبت إلى المكان الخطأ. وقبل الأمير عذري، فقد سره انني لم اتعرض لمكروه... كتبت ما سبق قبل اسبوعين، وأسأل القارئ هل يعرف رئيس دولة غير الشيخ عيسى بن سلمان، يخرج من قصره ويوقف الناس ليسألهم هل رأوا حادث سير على الطريق، خوفاً على زائر تأخر عن موعده؟ ماذا يمكن ان يقال في هذا الإنسان النبيل؟ اكتفي بمعلومات تفيه حقه أكثر من أي عبارات رثاء أو عزاء مستهلكة. - آخر مرة رأيته في باريس، أي قبل تسعة شهور، سألته أسئلة خاصة وللنشر عن الخلاف مع قطر. وهو في الحديثين المنشور والخاص لم يقل كلمة سيئة واحدة عن قطر، بل أصر على ان العلاقة بين البحرينوقطر أعمق من أي خلاف وأبقى. وتحدث بكلام جميل عن الأمير الشيخ حمد بن خليفة. - في جلسة سابقة كان الأمير يحمل في قلبه مع هموم بلده هم العراق، وهو تحدث بتأثر عن معاناة الشعب العراقي، وقال لي إنه لم يتصور في حياته، ولو في الحلم، أن يأتي يوم تساعد فيه دول الخليج ابصغيرة العراق بعد أن كانت تنتظر كل عون من الشقيقة الكبيرة. وأبدى الشيخ عيسى خوفاً من انهيار العراق أو تقسيمه، وقال إن من شأن ذلك أن يفتح أبواب الشر على الدول العربية في الخليج كله. - في كل جلسة لي مع الشيخ عيسى كان هناك للقدس نصيب. وهو كان يرى أن حقوق العرب في المدينة المقدسة ستضيع إن لم يتخذوا موقفاً موحداً واضحاً ثابتاً لا عودة عنه. ولا اذكر مرة رأيت الأمير فيها من دون أن يعرج في كلامه على القدس، فقد كانت من همومه الشخصية واهتماماته. - كانت للشيخ عيسى طريقة طريفة جداً في عدم الرد على الأسئلة المحرجة، وإذا سألته مثلاً عن الخلاف الحدودي مع قطر، ولم يشأ الجواب، ينظر إليّ طويلاً ويقول: هل جاءت العائلة معك؟ وأقول لا، واستأنف الأسئلة منتظراً فرصة مناسبة لأعود إلى موضوع قطر. وهو يصمت مرة أخرى، ثم يقول: إذا لم تأت معك العائلة في الزيارة القادمة فلن نستقبلك. كانت هذه طريقته، رحمه الله، في قول "لا تعليق" من دون أن يزعج ضيفه. ماذا قال لي الأمير في آخر جلسة جمعتنا؟ هل كان حديثه عن القدس؟ أو حقوق الفلسطينيين؟ أو معاناة شعب العراق؟ أو مستقبل الأمة؟ بصراحة، لم أعد اذكر، ولكن اكتب واثقاً من ان كلماته الأخيرة لي كانت عن قضية عربية، فقد وسع قلبه العرب كلهم مع شعبه. وإن كان ثمة شعاع رجاء وسط ألم رحيل الأمير فهو ان الشيخ حمد بن عيسى قادر على إكمال طريق الخير التي مشى فيها أبوه، وان رئيس الوزراء الشيخ خليفة موجود، وكذلك اركان الأسرة كلهم، ثم هناك الشعب البحريني الواعي المثقف المدرك أبعاد دوره الاقليمي والعربي والدولي. باختصار، لا خوف على البحرين في غياب عيسى بن سلمان ال خليفة