تقوم اسطورة ارنستو تشي غيفارا اليوم على انتصاراته العسكرية، وعلى الغدر الذي تعرض له وكانت فيه نهايته، وعلى نزعته الثورية المتواصلة وعلى خلافاته العديدة مع كاسترو. باختصار: على تمرده داخل معسكره، اكثر مما على تمرده على المعسكر الآخر. بل ان موته نفسه يعزى في بعض المصادر الى خيانة الحزب الشيوعي البوليفي له. غير اننا اذا تتبعنا حياة غيفارا جيداً، سنجد ان انتصاره الأكبر كان ذاك الذي حققه عند نهاية شهر آب اغسطس 1961. ولم يكن انتصاراً عسكرياً ولا ايديولوجياً. لم يكن اقامة "ثورة" جديدة، ولا شق طريق لتنمية العالم الثالث. كان انتصاره الاكبر، شهرذاك، سياسياً واقتصادياً، على "اليانكي" اي على الاميركيين الشماليين. وتمثل الانتصار في اجباره رئيس الولاياتالمتحدة الاميركية، آنذاك، جون كينيدي على احداث انقلاب راديكالي اساسي في السياسة الاميركية ازاء القارة اللاتينية. وربما يكون جون كينيدي قد دفع حياته ثمناً لذلك الانقلاب. ذلك ان احدى النظريات عن مقتل كينيدي ترد جريمة الاغتيال الى "تطريته" للموقف مع كوبا خصوصاً، ومع الثوار اليساريين في طول اميركا اللاتينية وعرضها، بشكل عام. طبعاً هذه النظرية تبقى في حيز الافتراض، وليس هناك ما يؤكدها. لكن المؤكد هو ان غيفارا الخارج من معمعة الصراع السلطوي وانتصارات الثورة الكوبية خلال العامين الفائتين مكللاً بهامات النصر، عرف خلال الايام الاخيرة من شهر آب ذاك، كيف يحقق لاميركا اللاتينية "وطننا الثوري العزيز" حسب تعبيره، اكبر انتصار حققته على "الوحش الرأسمالي الاميركي". ففي تلك الايام عقد في الاوروغواي مؤتمر فريد من نوعه هو "مؤتمر المجلس الاقتصادي الاجتماعي الاميركي". وكان نجم المؤتمر وبطله ارنستو غيفارا، الذي كان قبل ايام قليلة حقق انتصاراً آخر حين زار وطنه الاصلي الارجنتين واجتمع بأفراد اسرته هناك، بعد غياب طويل، كان خلاله طريد العدالة ينتقل من بلد الى بلد ومن ثورة الى ثورة. هذه المرة كان غيفارا يزور بلده وهو وزير في حكومة كوبا الثورية المُعترف بها. وهو بتلك الصفة ايضاً حضر مؤتمر الاوروغواي. المؤتمر الذي شهد انتصاره على واشنطن. عند دخوله قاعة الجلسة التاريخية للمؤتمر، يوم 27 آب من ذلك العام، علا التصفيق من معظم الحاضرين ل "اللاتيني الاميركي الصغير المنتصر على الذئب الشرير" وكان ذلك الانتصار يعني بالطبع فشل غزوة "خليج الخنازير" التي ورط بها المنفيون الكوبيون ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، حكومة الرئيس جون كينيدي، واسفرت عن كارثة بشرية، واخرى سياسية اصابت تلك الحكومة في الصميم. وأخذ العالم الثالث كله يصفق للانتصار الكوبي. في مؤتمر الاوروغواي اعتبر غيفارا مسؤولاً عن ذلك الانتصار. أوليس هو الاكثر عداء لواشنطن بين المسؤوليين الكوبيين؟ وأليس هو الذي أجبر الرئيس كينيدي على إقالة آلن دالاس المسؤول الاول عن كارثة غزو خليج الخنازير في محاولة من الرئيس الاميركي لإزالة آثار العدوان؟ حسناً، لقد فعل كينيدي هذا، والطلاب والشبان الذين تحلّقوا من حول غيفارا في الاوروغواي راحوا يمطرون بطلهم بالاسئلة التي كان يجيب عليها مقهقهاً. وفي الوقت نفسه كانت الحكومة الاميركية تواصل ضروب التقرّب والاغواء: كان كينيدي يعرف ان هذا هو الوقت الملائم اكثر من اي وقت مضى لتطبيق نظرية مونرو الشهيرة: كسب الاصدقاء عن طريق المال، ما يؤدي الى ابعادهم عن الاعداء. كان كينيدي يعرف ان بإمكانه ان يغري كوبا، اقتصادياً، بأكثر مما يفعل السوفيات. لذلك ارسل نائب وزير الخارجية الاميركية دوغلاس ديلون ليعرض على غيفارا مساعدات تصل الى عشرين بليون دولار تقسط على عشر سنوات وتستخدم في تحسين الاوضاع الصحية والتربوية. كان جواب غيفارا: لا. المبلغ قليل، ولا نقبل ان تكون هناك، على اية حال، شروط استخدام محددة، وفي الكواليس راح مسؤول اميركي نشط آخر وهو ريتشارد غودوين يعرض على الكوبيين، عن طريق البرازيل والمكسيك، مساعدات مغرية، مع شرط واحد وهو ان تبقى كوبا في معسكر "الطيبين" وتبتعد عن معسكر "الاشرار". وكان جواب غيفارا الدائم: لا… اذا كنتم تريدون مساعدتنا، ساعدونا ولا تشترطوا علينا أي شرط. وهكذا فشل التقارب بين واشنطن وهافانا… وخروج غيفارا من ذلك المؤتمر وكواليسه بطلاً مكرّساً. اما كينيدي فأحسّ انه المهزوم الأكبر