العام 1956 كان استثنائياً وحافلاً في تاريخ الثورة الكوبية. الانتفاضات في كل مكان، والمسلحون يسيطرون هنا ويتراجعون هناك. التواصل مؤمن بين المكسيك وغيرها، حيث القيادات ملتجئة، وبين شتى انحاء كوبا. ولكن في معظم الأحيان، كانت التحركات تتخذ طابعاً فردياً، وفي بعض الاحيان مغامراً. كان الوضع كله اشبه بالجنون. ولكن كان واضحاً من خلال ذلك كله، ان ثمة في الأفق تغييراً مؤكداً، وانتظاراً للثورة التي يقودها كاسترو ويشارك فيها غيفارا بين آخرين. وكان واضحاً ايضاً ان "اليانكي" الولاياتالمتحدة الاميركية بدأت تسقط باتيستا من حسابها، وان الصحافة الاميركية لا يفوتها ان ترجح كفة الثوار، وان تركز على اعمال القمع التي يمارسها باتيستا وسلطاته. مهما يكن في الامر نعرف ان الانتصار النهائي كان عليه ان ينتظر بعض الوقت… شهوراً اخرى، تحدث بعدها تلك التبدلات الجذرية، ليس في حياة كوبا وحدها، بل في حياة اميركا اللاتينية كلها. غير ان ذلك كان لا يزال بعيداً بعض الشيء. في ذلك الوقت كان المعنيون يحصون النقاط، ويرسمون محصلات الارباح والخسائر. وضمن هذا الاطار أتت انتفاضة سانتياغو، التي كانت واحدة من النقاط الانعطافية في التاريخ الممهد لانتصار الثورة. والغريب في امر انتفاضة سانتياغو انها حدثت في واحدة من اقرب المدن الكوبية الى القواعد الاميركية في غوانتانامو، الى الشرق الأقصى من الجزيرة. والأغرب من هذا ان جنود القواعد لم يحركوا ساكناً، بل سيكون هناك من يقول ان بعضهم دعم المنتفضين في المدينة، لكن هذه حكاية اخرى. وفي خلفيات تلك الانتفاضة التي بدأت شرارتها الاولى تندفع مساء التاسع والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر 1956، ان فيديل كاسترو، كان يتوقع ان يصل الى المدينة قادماً من المكسيك في اليوم الأخير من ذلك الشهر، لذلك اتصل بالفرقة المسماة "م-26-27" طالباً منها ان تنتفض في المدينة ما يهيئ لوصوله. وهكذا منذ الفجر، تحرك المدرس فرانك باييس، احد كبار مساعدي كاسترو في تلك المنطقة، مع مجموعة من سبعة وعشرين مقاتلاً يرتدون الثياب زيتية اللون ويحملون الشارات الملونة بالأسود والأحمر، وتوجهت المجموعة مع قائدها الى ثكنة الشرطة الوطنية فاضرمت النار فيها. وبعد ذلك، فوراً، توجه الثوار الى مركز الشرطة البحرية، حيث احتلوه وبعثروا محتوياته واستولوا على ما في داخله من اسلحة. وهنا راحت تدور معارك في الشوارع، وأدرك الثوار انهم منذ تلك اللحظة وصاعداً سيواجهون مقاومة عنيفة وقاسية ومنظمة. فالحقيقة انه منذ الهجوم على "مونكادا" كانت قوى القمع المناصرة لباتيستا قد شكلت مجموعات خاصة مضادة للثورة، مدربة ومعدة بشكل جيد ومزودة بأحدث انواع الاسلحة. وكان يتم اختيار اعضاء تلك المجموعات من بين افراد يشترط فيهم ان يكونوا شرسين في عدائهم للثورة. وهذه المجموعات كانت هي التي وصلت على الفور الى "سانتياغو" للمشاركة في التصدي للثوار خلال اليوم الأول والأيام التالية. وكان ان دارت معارك عنيفة في الليل وفي النهار. ونذكر في هذا المجال - نقلاً عن مؤرخي تلك المرحلة - ان فرانك باييس، كان في الاصل قد رفض المشاركة في الهجوم على "مونكادا" لأن ذلك الهجوم كان، في رأيه، سابقاً لأوانه. وهو كان توجه بنفسه الى المكسيك لمقابلة كاسترو وشرح الأمور له. وكان من رأي باييس انه يجب، قبل تحويل التحرك الى تحرك جدي، انتظار موسم حصاد قصب السكر في كانون الثاني يناير. لأن المزارعين في ذلك الحين يكونون اكثر فعالية واكثر تأثيراً على الاقتصاد ان هم اضربوا وتحولوا الى المشاركة في الثورة. وكان هذا هو ايضاً رأي قيادات "حزب الشعب الاشتراكي" السري. غير ان فيديل كاسترو رفض ذلك المنطق، وقال ان كل الأوقات صالحة للثورة. ولم يكن امام فرانك باييس الا ان يطيع. ومن هنا كانت قيادته لانتفاضة سانتياغو. وفي هذا الصدد نذكر انه لئن كانت القوات الحكومية قد حركت المجموعات الخاصة، فان الثوار، بدورهم، عززوا مجموعة باييس هناك، حيث اعلموا رفيقيه سيليا سانشيز، عبر رسالة مشيفرة، ان ننتظر عند الشاطئ وصول سيارات ومؤن وذخائر وأدلاء لتعزيز انتفاضة المدينة. وبالفعل وصل هذا كله، ما مكن باييس في نهاية الأمر من السيطرة على سانتياغو، بشكل اعتبر في ذلك الحين مؤشراً واضحاً الى ان الثورة سوف تنتصر، لأن انتفاضة من هنا، وتمرداً هناك، وثورة في كل مكان، كانت اموراً، ألّبت الرأي العام العالمي لصالح الثوار وعزلت باتيستا. الصورة: معارك الشوارع في سانتياغو دي كوبا.