Francois Koch. La Vraie Nature D'Arlette. الطبيعة الحقيقية لآرليت. Seuil, Paris. 1999. 142 Pages. يكاد عنوان هذا الكتاب: "الطبيعة الحقيقية لآرليت" أن يكون عنواناً لرواية. ومع ذلك فهو كتاب في السياسة. وبطلته، آرليت لاغييه، هي بلا جدال أطرف وجه في السياسة الفرنسية. ولا يشاركها في هذا الموقع سوى بطل آخر للطرافة السياسية في فرنسا المعاصرة: جان ماري لوبن. ولكن مع هذا الفارق الكبير: فهي لا تشعر أنها "في جلدها" إلا بقدر ما تحتل مكاناً ثابتاً لها في يسار اليسار، بينما لا يستطيب لوبن الإقامة إلا في يمين اليمين. خصومها وأصدقاؤها معاً يلقبونها ب"القديسة آرليت". ولكن هؤلاء عن حب، وأولئك عن سخرية. والواقع أن آرليت لاغييه "قديسة حمراء". فهي ماركسية المذهب وتروتسكية العقيدة حتى الموت. كان انتماؤها الأول، وهي موظفة بنك برتبة ضاربة على الآلة الكاتبة، الى "الحزب الاشتراكي الموحد" الذي كان يبدو في حينه وكأنه الحزب الثوري الوحيد لأنه كان الحزب الفرنسي الذي يعارض - بقيادة بعض المثقفين اليساريين ومنهم كلود بورديه وميشال روكار - حرب فرنسا الاستعمارية في الجزائر. وقد تركت فيها التظاهرة التي نظمها هذا الحزب، بالتضافر مع الحزب الشيوعي، يوم 8 شباط فبراير 1962 ضد "منظمة الجيش السري" ومن أجل السلم في الجزائر، أثراً لا يمحى. فقد كان قائد الشرطة موريس بابون - القابع الآن في السجن بتهمة التعاون مع المحتل النازي - قد أصدر أمراً بمنع التظاهرة التي كان مقيضاً لها أن تنطلق من ساحة الباستيل. وقد سدت الشرطة في يومها المنافذ الى الساحة وهاجمت بضراوة المتظاهرين الذين كانوا احتشدوا في جادة فولتير. واتقاء لرصاص الشرطة احتمى بعضهم بمدخل المترو المغلق، فمات ثمانية منهم اختناقاً. ومنذ ذلك اليوم غدت ارليت لاغييه يسارية أكثر من أي يوم سبق. وهذا الى حد أنها لم تتردد في ترك الحزب الاشتراكي الموحد بالخمسة عشر ألفاً من مناضليه لتنتمي الى منظمة تروتسكية صغيرة لا يتجاوز عدد أعضائها العشرات، هي "الصوت العمالي". وبصفتها عضواً قيادياً في هذه المنظمة شاركت في أحداث أيار مايو 1968، ولكن بنوع من حذر نقدي: فثورة 1968 قادها الطلبة، لا العمال، فهي بالتالي "هيصة بورجوازية صغيرة"، وليس على الإطلاق "ثورة بروليتارية". وأرليت لاغييه، ومعها جميع رفاقها في "الصوت العمالي"، تؤمن بأن "الطبقة العاملة هي الطبقة الاجتماعية الوحيدة الحاملة لمستقبل". وباستثناء هذه الطبقة فإن "الثقة التاريخية لا يمكن أن توضع في أي طبقة أخرى". في 12 حزيران يونيو 1968، وبعد انطفاء انتفاضة أيار "التي قادتها - بحسب تعبير آرليت لاغييه نفسها - جماعة فوضوية من جامعة نانتير بزعامة دانييل كوهن بانديت"، صدر مرسوم جمهوري بتوقيع ديغول يقضي بحل عشر منظمات ثورية - تروتسكية وماوية وفوضوية - ومنها "الصوت العمالي". ولكن العنقاء اليسارية المتطرفة عاودت انبعاثها حالاً تحت اسم "النضال العمالي". وتحت راية هذا التنظيم رشحت آرليت لاغييه نفسها، على دهشة من كثيرين، لمنافسة فرنسوا ميتران، مرشح "الحزب الاشتراكي الفرنسي" في معركة انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1974. وعلى دهشة أكبر من الجميع نالت آرليت - وكانت أول امرأة في تاريخ فرنسا ترشح نفسها للرئاسة - 2 في المئة من أصوات الناخبين. وقد أعادت ترشيح نفسها بعد ذلك ثلاث مرات على التوالي، ولكن دوماً بحصة 2 في المئة. ثم كانت المفاجأة الكبرى عام 1995 عندما قفزت آرليت فوق عتبة ال5 في المئة، ونالت في الانتخابات الرئاسية التي دارت فيها المواجهة بين الديغولي شيراك والاشتراكي جوسبان 552 1615 صوتاً. وفي انتخابات 1998 البلدية نالت لائحة آرليت 66،3 في المئة من الأصوات، واحتل لأول مرة في تاريخ فرنسا عشرون تروتسكياً أماكنهم في المجالس البلدية. وفي انتخابات 13 حزيران يونيو 1999 لعضوية البرلمان الأوروبي جاوزت لائحة آرليت لاغييه، المتحالفة مع آلان كريفين زعيم "رابطة الشيوعيين الثوريين"، رصيدها الى أكثر من 6 في المئة من أصوات الناخبين، مخلفة وراءها على هذا النحو لائحة "الحزب الشيوعي الفرنسي" الذي يتأكد أكثر فأكثر تحوله، دورةً انتخابية بعد أخرى، الى حزب أقلوي. ما سر صعود آرليت الانتخابي؟ إنه لا يعود بحال من الأحوال الى قوة حزبها. فعدد المناضلين في "النضال العمالي" لا يزيد على الثمانمئة، وعدد المناصرين على الألفين أو الثلاثة آلاف. كما أنه لا يعود بحال من الأحوال الى برنامج حزبها. فآرليت ورفاقها من التروتسكيين لا يحلمون بأقل من أن يكرروا في فرنسا ثورة 1917 البلشفية لأن الثورة الروسية تظل في تقديرهم "أعظم صوت في القرن" على رغم ما أصابها من "انحطاط بيروقراطي". وبديهي أنه ليس في فرنسا مليون وستمئة ألف ناخب يحلمون بأن تعرف فرنسا، التي هي ثاني أو ثالث بلد متقدم في العالم، مصير روسيا. ولكن هناك في المقابل مليون وستمئة ألف ساخط في صف اليسار، مثلما هناك مليون وستمئة ألف ساخط في صف اليمين، يصوتون لصالح آرليت أو لصالح لوبن على سبيل الاحتجاج والاعلان عن عدم الرضا. ومثل هذا التصويت الاحتجاجي دارج في الديموقراطيات الحديثة القائمة على نظام الحزبين. ففي اليسار كما في اليمين، كما في الوسط، يظل هناك دوماً هامش من الناخبين المعانين من خيبة سياسية مزمنة. وهم يعلنون عن خيبتهم لا من خلال الامتناع عن التصويت، بل من خلال نوع من التصويت السالب لصالح أحزاب أو شخصيات متطرفة في طوباويتها، يساراً أو يميناً، الى حد اللافاعلية. مصدر القوة الانتخابية إذاً لآرليت لاغييه يكمن في لاواقعيتها ولاواقعية برنامجها. فدورها أن تقدم للساخطين من الناخبين "متنفساً" أو حتى "مكسر عصا"، فهي ليست صوتهم، بل وسيلتهم الى إسماع صوتهم. أهي إذاً دمية؟ هذا ما يؤكده على أي حال مؤلف "الطبيعة الحقيقية لآرليت" - وهو صحافي من فريق مجلة "الاكسبريس" الأسبوعية - الذي لا يضمر في الواقع "للقديسة الحمراء" وداً كبيراً. فكل تحليله "لطبيعتها" يقوم على أنها ليست مجرد دمية رمزية بالنسبة الى ناخبيها فحسب، بل على أنها أيضاً دمية حقيقية يديرها من وراء ستارٍ "المخ القائد" الذي يمسك بخيوطها وبخيوط المنظمة التروتسكية التي ما فتئت تنتمي اليها منذ أكثر من ربع قرن: روبير بارسيا. من هو؟ أنه رأسمالي يعمل في حقل الصناعة الصيدلانية، له من العمر 70 عاماً، يترأس منظمة "النضال العمالي"، ومن قبلها "الصوت العمالي"، منذ أربعين سنة، ويقودها بقبضة من حديد تحت اسم مستعار هو السيد هاردي. وعلى رغم ثروته فإنه يعتبر نفسه عاملاً بروليتارياً وبموجب تصريح له في وثيقة داخلية وزعت على أعضاء المنظمة في 13 أيلول سبتمبر 1992، يقول: "إنني لا أعمل بيديّ، ولكنني أزعم مع ذلك أنني ثوري بروليتاري. فحسب المرء، كي يكون كذلك، أن ينتمي الى منظمة ثورية وأن تكون له توجهات عادلة اجتماعياً... ومن دون أن أقارن نفسي مع لينين، فسألاحظ أنه كان ثورياً بروليتارياً متحدراً من وسط بورجوازي صغير". روبير بارسيا، الملقب بهاردي، والمتربع على رأس المنظمة منذ أكثر من أربعين سنة، يحاط من قبل أنصاره بعبادة شخصية حقيقية. وعندما يخطب - وخطاباته "نهرية" أي تدوم ساعات طوالاً - يخيم على مستمعيه صمت ديني. وعلى حد زعم مؤلف "الطبيعة الحقيقية لآرليت"، فإن المنظمة التي يقودها تجهل مبدأ النقد والنقد الذاتي. والعقوبة التي يخافها الجميع وتلجم ألسنة المنتقدين هي الفصل من الحزب. فهذه العقوبة تعادل، في منظمة مغلقة مثل "النضال العمالي"، حكماً بالإعدام السياسي. هذا لا يعني أن المنظمة لا تعرف خلافات في الرأي. ولكن الخلافات تتحول حالاً، بالنظر الى انعدام الجو الديموقراطي، الى انشقاقات. وقد كان آخر هذه الانشقاقات ذاك الذي شهدته المنظمة عام 1996 حول طبيعة الاتحاد السوفياتي. فالجناح المنشق، والمؤلف من نحو 30 مناضلاً، ذهب الى أن الديكتاتورية السوفياتية تحولت نهائياً، ابتداء من الثمانينات، الى ديكتاتورية بورجوازية. ولكن الغالبية ظلت متمسكة بالتحليل "الأورثوذكسي" كما كان صاغه تروتسكي: فالاتحاد السوفياتي السابق كان ويبقى "دولة عمالية منحطة". ويبدو أن هذا النقاش حول طبيعة الاتحاد السوفياتي السابق لم يحسم، بل أدى، في مؤتمر عام استثنائي للمنظمة في 23 آذار مارس 1997، الى فصل 70 مناضلاً، أي ما يعادل 9 في المئة من أعضاء الحزب بتهمة الخروج على انضباطه البروليتاري الثوري والتورط في "النزعة الفردية البورجوازية الصغيرة" والتشكيك في "حكمة القائد" الممسك بمقاليد المنظمة منذ 1956. ترى ماذا سيكون رد آرليت لاغييه على اتهامات محلل "طبيعتها الحقيقية"؟ الأرجح أنها ستقاضيه أمام المحاكم بتهمة الافتراء. ولا شك أيضاً أنها ستكيل له بما كال لها. فلئن اتهمها بأنها "دمية" ناطقة بلسان سيدها، فلن يصعب عليها أن ترد بأنه هو نفسه "دمية" وناطق بلسان سيدته: البورجوازية. فالمجلة التي يعمل فيها - الأكسبريس - هي ملك لواحدة من كبرى المجموعات الرأسمالية الفرنسية: ألكاتيل - ألستوم، ولقد سبق لآرليت أن قاضت هذه المجلة أربع مرات مطالبة بتعويض لا يقل عن مليون فرنك فرنسي. وبديهي أنها إذا ما ربحت احدى هذه الدعاوى، فإن المبلغ التعويضي لن يذهب الى جيبها، بل الى المنظمة التروتسكية التي تناضل في صفها. فآرليت تبقى - وهذه علامة فارقة أخرى لها - أفقر السياسيين في فرنسا المعاصرة.