كتاب "أسرار المجوهرات العطرية" من تأليف آنيت غرين وليندا داييت يأخذ القارئ في رحلة جغرافية تاريخية مثيرة لاستكشاف الطرق التي تعاونت فيها مهارات المجوهراتي وصانع العطور لانتاج تحف مذهلة الجمال والتنوع. يقع الكتاب في 191 صفحة، وهو من دار "فلاماريون" في باريسونيويورك، وصدر بطبعتين انكليزية وفرنسية. ويمتاز النص بغزارة المعلومات وحسن التنسيق، ويرافقه الكثير من الصور الفوتوغرافية الملونة والرسوم والمحفورات لمجوهرات عطرية. تكتب المؤلفتان: "في كل حضارة اهتمت بالعطور كسلع منقولة، كانت هناك، قرناً بعد قرن، المجوهرات العطرية"، تلك المجوهرات التي "تشبع الرغبة الانسانية العميقة ليس فقط لاستنشاق العطر او دهنه على البشرة، بل للاحتفاظ بكمية احتياطية منه... ارتياحاً اليه، وكذلك من اجل الحماية والغواية". المؤلفة آنيت غرين رئيسة "مؤسسة العطور" في نيويورك، وقد قابلتها "الحياة" أثناء زيارتها الأخيرة الى لندن. هي من مواليد فيلادلفيا، لكنها تعتبر انها "قلبياً من نيويورك"، وتتصف فعلاً بالدفء العاطفي وروح النكتة والاناقة، وكلها سمات سكان نيويورك. آنيت هي القوة الدافعة ل"مؤسسة العطور" منذ 38 سنة. وتقول: "اغرمت دوماً بالعطر ولم افهم لماذا لا تستعمله الأميركيات أكثر". وكان استعمالهن له يقتصر عادة على دهن كمية ضئيلة منه خلف الأذن ليل السبت. أما اليوم فقد تغيرت الصورة تماماً، وتبلغ قيمة قطاع العطور في السوق الأميركية نحو ستة بلايين دولار نحو ثلث قيمة سوق العطور الرجالية. آنيت صحافية أصلاً، وأنشأت في 1961 وكالة للعلاقات العامة، وكان من بين اول زبائنها "مؤسسة العطور". وكان عدد من شركات العطور، وغالبيتها من الشركات الفرنسية التي كانت مسيطرة على سوق العطور الأميركية وقتها، أقام المؤسسة في 1949. وكانت المؤسسة في 1961 لا تزال مفتقرة الى الفاعلية، وتقول آنيت ضاحكة انها احتاجت "عشر سنوات فقط" لتنشيطها لتصبح من العوامل الرئيسية في تغيير نظرة اميركا الى العطور. أنشأت آنيت قبل 27 سنة "جائزة فيفي" السنوية للعطور، التي تعني لقطاع العطور ما تعنيه جائزة الأوسكار للسينما. وتم تقديم جائزة السنة الحالية في 7 حزيران يونيو الماضي، وكان من بين المقدمين عارضة الأزياء نعومي كامبل والثري الأميركي دونالد ترامب. سمعت آنيت عن المجوهرات العطرية للمرة الأولى عندما كانت تعمل في "مؤسسة العطور" على معرض بعنوان "عطر الزمن: انعكاسات العطور على المجتمع". وافتتح المعرض في نيويورك في 1987 وانتقل الى متاحف في واشنطن وشيكاغو ولوس انجليس ودالاس. وقالت الكاتبة آنيت: "وجدت اثناء قيامي بالابحاث من اجل المعرض قطعاً لم تسبق لي رؤيتها وفكرت انها تصلح لكتاب رائع". وقامت بعد ذلك باتصالات واسعة، شاركتها فيها زميلتها في التأليف ليندا داييت، وهي صحافية مختصة في شؤون التجميل والموضة، للعثور على أفضل نماذج المجوهرات العطرية في المتاحف. ومن بين أفضل المجموعات تلك التي في "متحف فكتوريا وألبرت" في لندن، وقالت آنيت: "لم أر ما يشبهها من قبل". كما عثرت المؤلفتان على قطع اضافية في دور المزاد وشوارع لندنوباريس. يضم الكتاب صور الكثير من انواع المجوهرات التي استعملت لحمل العطر، مثل القلادات والميداليات والأساور والساعات والشبكات والخواتم والأقراط والمحافظ المحمولة على الاحزمة. وهناك أمثلة كثيرة على "التمائم العطرية" التي كانت تلبس للحماية من "عين الحسود" وما شابه. الكثير من المجوهرات هذه بتصاميم ملحوظة التفرد والأصالة، ولا تخلو احياناً من روح الهزل والمبالغة في الغرابة. كما انها في غالبيتها راقية الصنع، بمفاصل وأغطية عادية ولولبية منمنمة، مع مخبأ صغير لحفظ العطور. من ذلك مجوهرات من عصر النهضة الأوروبي مثل "خواتم العطر"، حيث كانوا يخفون المسك او التوابل العطرة تحت الحجر الكريم على الخاتم. هذه الخواتم تشابه تماماً من حيث التصميم "خواتم السم" السيئة الصيت في العصر نفسه. وشاع عن سيزار بورجيا انه كان يحمل سماً في خاتمه ليدسه اذا دعت الحاجة في كأس ضيفه!. من ادوات الزينة في شمال افريقيا ومناطق افريقية اخرى وأيضاً الشرق الأوسط، الأقراص المصنوعة من معاجين عطرية. يعود أصل هذه المعاجين الى العصور الفرعونية، ومن مكوناتها خشب الصندل والمسك والعنبر والزهر والزعفران والطيب والقرنفل. وتظهر بطاقة بريدية من تونس في 1900 صورة امرأة على كتفها حزام عليه عدد من هذه الأقراص. هناك ايضاً صورة لقلادة تونسية مصنوعة في 1985 بتشكيلة جميلة من الأقراص بثلاثة الوان هي البني الغامق والبرتقالي والذهبي. يعود أصل المجوهرات العطرية الى مصر القديمة واليونان وروما والشرق الأقصى. وهناك كثير من الرسوم تظهر نبلاء العصور الفرعونية وقد زينوا رؤوسهم بأكواز العطر. وشاعت في الهند في العصور القديمة القلائد من حبات خشب الصندل، وأيضاً الاقراط المليئة بزيوت العطر. الأمثلة الأولى في العالم الغربي على مجوهرات صممت خصيصاً لحفظ العطور كانت المشبوكات والمجوهرات المحفورة التي استعملها الاترسكيون ما بين 800 قبل الميلاد و200 قبل الميلاد. ومع انهيار الحضارات القديمة في الغرب عادت صناعة المجوهرات الى الشرق الأوسط والهند. بعد الحروب الصليبية رجع المحاربون الأوروبيون بأنواع كثيرة من العطور التي اكتشفوها في الشرق الأوسط، مستمدة من الزهر والورد والتوابل والخشب وغير ذلك من النبات، وكذلك اساليب تثبيتها، أي منع تبخرها وتلاشيها، عندما تمزج مع مواد مثل المسك. وأدى هذا الى عودة الانتعاش الى تجارة العطور واستعمالها. وكانت لهذا اهمية خاصة في أوروبا وقتها، بسبب ظروفها المعيشية والصحية السيئة التي كانت تنشر الروائح الكريهة في اجوائها. النوع الأول الواسع الانتشار من المجوهرات العطرية في الغرب حمل اسم "بوماندر" Pomaneder، المشتق من pomme d'ambre او "تفاحة العنبر" بالفرنسية. مصدر المجوهرات هذه في البداية كان الشرق، لكن تصنيعها بدأ في اوروبا ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر. شكلها كان كروياً في العادة وكانوا يملأونها بأندر وأغلى انواع العطور. واعتقد الأوروبيون بأنها كانت تحمي من الأمراض خصوصاً الطاعون الذي كان ينتشر في القارة. ولم يضاه الكلفة العالية لمحتويات "التفاحة" المسك كان يساوي وزنه ذهباً سوى كلفة غلافها الذي كانت ترصعه الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة. ولل"بوماندر" أشكال عدة، لقسم منها معان رمزية مثل القلب وحبة الجوز والزهرة والسفينة والكتاب والجمجمة. بعد عصر النهضة تحول الذوق العام عن العطور الثقيلة المأخوذة من الحيوان، وأصبحت العطور بين القرنين السادس عشر والسابع عشر أخف تركيباً، فيما كان العنصر المثبت لها الكحول او الخل. وأصبح صنع ال"فلاكون" flacon، اي قارورة العطر، فناً واسع الانتشار في اوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكانت ال"فلاكون" تستعمل على شكل مجوهرة عطرية عند تثبيتها على قلادة. الطريقة الأخرى لحفظ العطور كانت تشريب قطعة صغيرة من القطن او الاسفنج بها ووضعها في "فينيغريت" vinaigrette أو اناء الخل. وتمتاز العطور التي تستعمل الخل، وتخلط في احيان كثيرة مع زيوت الخزامى ونبتة اكليل الجبل والقرنفل وغيرها، بحدة الرائحة وليس حلاوتها. واصبحت ال"فينيغريت" في القرن الثامن عشر بالغة الشعبية كمجوهرة عطرية، واتخذت اشكالاً مذهلة التنوع مثل الحيوان والقلوب والزهور والمحافظ. أما "صناديق الشم" التي بدأ استعمالها في النصف الثاني من القرن السادس عشر، فقد كانت لها أغطية بها ثقوب صغيرة تسمح باستنشاق العطر من خلالها. وهي ايضاً على تنوع كبير في الشكل والطراز. ال"شاتيلان" chatelaine من الطرق الاخرى للاحتفاظ بالعطور والتنقل بها، بدأ استعماله في اواخر القرن الثامن عشر. وهو حزام يلبس على الخصر وتتدلى منه سلاسل صغيرة تحمل عدداً من الأدوات النافعة، من بينها قوارير العطر والمقصات الخ. وشهد القرن التاسع عشر توسعاً هائلاً في الانتاج الصناعي لمجوهرات العطر. وفي بريطانيا كانت هناك شعبية كبيرة للقوارير على شكل القلب، وأيضاً لتلك التي اتخذت اشكال مختلف الحشرات والفراشات وغيرها من انواع الحيوان. في الكتاب صورة فوتوغرافية لقارورة عطور من لاليك على شكل سحلية. بعد الحرب العالمية الأولى تدفقت العطور الفرنسية الجديدة على الأسواق. ودفعت المنافسة الحادة شركات العطور الى التركيز على انتاج اجمل ما يمكن من القوارير، وكلفت كبار الفنانين والمصممين، مثل سلفادور دالي ولاليك، بتصميمها. واتخذ الكثير منها شكل القلائد واستعمل في صناعتها الماس واللؤلؤ وغيرهما من الاحجار الكريمة. بعد الحرب العالمية الثانية عاد الجنود الأميركيون من أوروبا بالعطور الفرنسية التي كانت تعتبر من مواد الترف وقتها. وشاع في اميركا في ستينات وسبعينات القرن الحالي استعمال ال"غلاسيه"، الصندوق الصغير من الذهب او الفضة الحاوي على مادة عطرية صلبة. ويمكن تعليق الصندوق على قلادة او دمجه في تركيبة من مختلف المواد. يلاحظ الكتاب ان المجوهرات العطرية اصبحت في نهاية قرننا الحالي ونهاية الألفية اكثر تنوعاً وتجريبية من اي وقت مضى، وتصنع من مواد جديدة وعلى اشكال جديدة. ويطلق الكتاب على نهاية القرن "العصر الجديد للتمائم"، لأن المجوهرات العطرية بدأت تعود الى اصلها السحري او التعويذي القديم. وينظر الأميركيون في شكل متزايد الى الماضي للعثور على علاج لأمراض الحاضر، كما نجد في الاهتمام المتزايد ب"العلاج العطري". الاتجاه الآخر هو تأثير المجوهرات العطرية التاريخية، خصوصاً من عصر الملكة فكتوريا.