بين كل أفلام ستانلي كوبريك الاثني عشر السابقة لن تجد ما هو شبيه بهذا الفيلم. كوبريك، الذي توفي بعدما انهى توليف فيلمه الجديد "عيون مغلقة على اتساعها" مباشرة، لم يعمل ضمن نوع معين من الأفلام ولا كشف عن ميل محدد صوب تيار بعينه. بقي منفتحاً امام الأنواع كلها، فخاض بذلك غمار الفيلم البوليسي والتاريخي والخيال/ العلمي والرعب والدراما الاجتماعية. ما حافظ علىه في كل الحالات هو اسلوب عمل وأسلوب تعبير ومضمون انتقادي. الآن، في "عيون مغلقة على اتساعها"، يودعنا بتحفة لا تقل جدارة عن أفلامه السابقة يتناول فيها العلاقة الزوجية وحب الشهوات واندفاع الزوج نحو النزوات، مبرراً ذلك بقدر عال من الغيرة الدفينة التي تجعله يغلق عينيه عن الحقيقة والواقع. اضف الى ذلك ان القصة تقع بين زوجين ثريين يعيشان في عالم من الزجاج الداكن، ويتعاملان اجتماعياً مع نماذج من الشريحة الاجتماعية نفسها، تجد لديك فيلماً "كوبريكيا" كاملاً. الأصل الأدبي "اكتشف" كوبريك قصة غير معروفة كتبها النمساوي آرثر شنتزلر في العام 1926 بعنوان "قصة حلم" وأراد تحويلها الى فيلم قبل اكثر من 18 سنة. حسب بعض الروايات، طلبت منه زوجته كريستيان كوبريك عدم الاقدام على ذلك يومها، لأنها "رواية تتعاطى وعوامل نفسية" وهي تعلم الهوس الذي يركب زوجها حيال كل فيلم يقوم بتحضيره، وزواجهما كان لا يزال جديداً وطرياً آنذاك، ما دفعها الى الخوف على مستقبله اذا ما غاص زوجها في غياهب القاع الاخلاقي الذي تدور فيه القصة. اقتنع كوبريك برأيها وأقدم على تحقيق "اشراق"، عن رواية ستيفن كينغ و"سترة معدنية كاملة" عن قصة قصيرة لغوستاف هاسفورد ليعود الى القصة التي شغلته منذ زمن بعيد. في كتاب صدر قبل أيام وضعه فردريك رفاييل، كاتب سيناريو فيلم "عيون مغلقة على اتساعها" يذكر الكاتب ان كوبريك، الشهير بتكتمه، بعث اليه بطبعة من رواية قصيرة نزع عنها عنوانها واسم الكاتب وطلب منه ان يقرأها ويعطيه رأيه فيها قبل ان يطلب المخرج من وورنر الاستديو الذي يموّله التعاقد معه على كتابة سيناريو لها. القصة تتمحور في الأصل حول طبيب يهودي، اسمه فريدولين في نزعة واضحة لتوفير مظلة نفسية مناسبة متزوج من امرأة اسمها ألبرتينا ولديهما فتاة صغيرة يحبانها بشدة. في احدى المرات بتوجهات الى حضور حفلة راقصة كبيرة في احدى الدور الثرية، وخلال الحفلة يفترقان من دون تصميم. خلال هذا الانفصال يستقبل كلا منهما عرض للخيانة، لكنهما يمتنعان. بعد عودتهما الى البيت يتبادلان التهم: لقد لاحظها تراقص رجلاً غريباً التصق بها ولاحظته يتحدث الى امرأة الى فتاتين معاً في الفيلم. ومع انهما اكتشفا ان غياب كل منهما عن الآخر طوال الحفلة لم تنتج عنه ممارسة الخيانة مع شريك مناسب، الا ان الحادثة دفعت الزوجة الى ان تصارح الزوج بأنها تخيّلت رجلاً آخر مكانه في مرات سابقة، رجلاً تقول إلتقته دون ان تتحدث اليه: بحاراً مر بها ومرت به دون توقف، لكنها شعرت "لو انه طلب مني المضي معه لفعلت". المحنة التي في بال الزوج الآن هي: كيف يستطيع ان يثق بأن زوجته تقول كل الحقيقة، اي انها لم تخنه مع ذلك البحار فعلاً؟ هذه المحنة، والكثير جداً من المفارقات الموجودة في الرواية الاصلية، نقلها كوبريك الى الشاشة، بما في ذلك قرار بطل الفيلم، الذي صار اسمه د. هارفورد توم كروز الانطلاق في سلسلة من المغامرات العاطفية في اطار ليلتين متتابعتين، بينها دخوله حفلة يمارس فيها الموجودون المقنعون رجالاً ونساء الحب في قصر ناء محاط بسرية مطلقة. لكن د. هارفورد لا يرتكب الخيانة الا في البال، ومغامراته كلها تتعثر، بما فيها وجوده في وسط تلك الحفلة الماجنة الذي يعرض حياته للخطر عندما يكتشف بعض من فيه انه ليس عضواً في هذه الجمعية الخاصة. اذ يطرد من المكان، يتساءل عما حدث لامرأة في الحفلة انقذت حياته لم يعلم انه التقى بها الا بعد التعرف على جثتها وعن لاعب بيانو كان السبب في ادخاله الى المكان. يتقصى هارفورد بحثاً عن الحقيقة ويدرك انه يبتعد عنها كلما اقترب منها، الى ان يلتقيه صديق له اسمه فكتور زيغلر سيدني بولاك المخرج الذي استعان به كوبريك ممثلاً بعدما انسحب هارفي كايتل من الدور يعلم سره لأنه كان واحداً من حاضري الحفل الماجن. يحاول هذا تبديد مخاوف د. هارفورد مؤكداً له ان المرأة التي أنقذت حياته ماتت طبيعياً نتيجة الادمان على المخدرات وان صديقه عازف البيانو تم تسفيره الى حيث اتى ليبقى الى جانب زوجته. على الرغم من انه لا يوجد برهان على صحة تأكيدات فكتور زيغلر، الا ان د. هارفورد يقرر إغلاق الملف والعودة الى حياته العادية. تغييرات كوبريكية يقتفي كوبريك اثر الرواية القصيرة بأمانة، ولكن ليس بأمانة مطلقة كما ذهب للقول بعض النقاد الاميركيين. فمن أبرز المتغيرات اضافة الشخصية التي أداها سيدني بولاك وغير الموجودة في الرواية الاصلية. كذلك نقل كوبريك الاحداث من فيينا الى نيويورك. والزمن من عشرينات القرن الى الزمن الحالي. لكن التغيير الأهم حدث في هوية الشخصية الأساسية، د. ويليام هارفورد ومرجعيته. الرواية المكتوبة نصّت على ان فريدولين طبيب يهودي مثقف. وفي تعثر مغامراته العاطفية محاولة لرسم اليهودي - الضحية، اليهودي - المنبوذ من قبل المجتمع الأوسع في بيئته الشخصية. حينما تحمس كاتب السيناريو فردريك رفاييل وهو يهودي لهذه الناحية متخيلاً صحة نقل المرجعية اليهودية الى الزمن الحالي وجعل بطله يواجه في طي عثراته بعض الصد الناتج، ولو ضمنا، عن كونه يهودياً، عارضه كوبريك بشدة. في الفصل المكتوب الذي يقع في الحفلة الجماعية يجد د. فريدولين نفسه مطالباً بكشف هويته. ويعكس ذلك شعوره الدفين بأن رفضه عائد الى كونه يهودياً. ليس ان اهل الحفلة كانوا يعلمون ذلك، بل ان د. فريدولين هو الذي قرر انه في الوقت الذي يكشف فيه عن شخصيته وينزع القناع الذي يرتديه، سيعرض "يهوديته" للكشف وبذلك يتعرى تماما امام اعدائه. في الفيلم لا يقوم المشهد على هذا المحور مطلقاً لأن كوبريك نزع فتيل الناحية اليهودية التي لم تعن له شيئاً. في حواره مع رفاييل قال ستانلي كوبريك الى الكاتب قاطعاً الطريق على محاولاته التي تبدت في النسخة الأولى من السيناريو الذي اعيدت كتابته عدة مرات. الحوار تم هاتفياً وأورده كاتب السيناريو في كتابه: كوبريك: ما رأيك في "الهولوكوست" المحرقة اليهودية على أيدي النازيين؟ رفاييل: رأيي انه ليس لدينا وقت لمعرفة رأيي في "الهولوكوست". كوبريك: كموضوع فيلم؟ رفاييل: لقد تم صنع بضعة افلام حول هذا الموضوع. أليس كذلك؟ كوبريك: صحيح؟ لم أكن اعلم يخفي بالتأكيد الحقيقة لمواصلة منوال فكره. رفاييل: هل شاهدت "المهنة: مخبر"؟ كوبريك: أتعني فيلم انطونيوني مع جاك نيكولسون؟ رفاييل: لا غيره. كوبريك: حسناً... ماذا ايضاً؟ - رفاييل: هناك "قائمة شيندلر"... أليس كذلك؟ كوبريك: تعتقد ان ذلك الفيلم كان عن "الهولوكوست"؟ رفاييل: ألم يكن؟ عما يكون إذن؟ كوبريك: كان عن النجاح. "الهولوكوست" هو حكاية مقتل ستة ملايين يهودي. اما "قائمة شيندلر" فعن ست مئة شخص لم يموتوا! الحفلة الكبرى فيلم كوبريك الأخير يتجاوز فرويد والكاتب وبطله ويهوديته ويرحل في عالم هو من مكوّنات كوبريك. ليس انه فيلم خيالي وبعيد عن الواقع، لكنه في الوقت ذاته ليس من المعطيات البسيطة والمباشرة لهذا الواقع. وإذ نتف كوبريك الشعرة اليهودية من الحكاية لكي يجردها من التقوقع ومرثاة اليهودي المجني عليه، عمد الى ما هو اهم من ذلك بكثير كما سنكتشف عند نهاية الملخص التالي لما يدور الفيلم تحديداً عنه: يبدأ الفيلم بلقطة لنيكول كيدمان تستمر أقل من عشر ثوان وتمر بين العناوين التي طبعت على شاشة سوداء. بعد ذلك، حينما يبدأ الفيلم، نكتشف ان الزوجة أليس كيدمان وزوجها الطبيب الناجح والثري هارفود كروز في حمّام شقتهما. حمّام بحجم غرفة نوم يعكس مظاهر الثراء ككل ركن في تلك الشقة النيويوركية. انهما يحضران نفسيهما للحفلة. يرتديان ثياب السهرة. هو كامل العدة، وهي ترتدي فستانها الأسود. يتركان ابنتهما مع المربية ويمضيان. الباقي يتم كما هو مكتوب في القصة تقريباً، باستثناء ان بعض مشاغل الزوج لم تكن موجودة حين اعترضته فتاتان جميلتان واعدتان، بل اساساً حينما طلب منه صديقه فكتور، وهو وصاحب الحفلة ايضاً، الصعود الى حجرته. هناك يجد امرأة اغمي عليها تحت تأثير المخدرات التي تناولتها. ينقذها من موت محتم ويعود الى زوجته التي تركها تراقص رجلاً خلط الشيب شعره لكنه لا يزال من النوع الوثّاب على الفرص خصوصاً اذا ما كانت جميلة وترقص بين يديه. المشهد التالي يدور بعدما عادا الى البيت حيث يتبادلان التهم واللوم، وحيث تكشف له أليس عن "الفانتازيا" التي حملتها معها بعدما التقت بالبحار عابراً ومن دون لمس... فقط كانت هناك يومها تلك النظرات النافذة. يتلقى ويليام مكالمة من امرأة تخبره ان مريضاً كان يعالجه مات. الوقت متأخر لكن ويليام يقرر القيام بزيارة مواساة. هناك يفحص الجثة وبعدها تطلعه المرأة التي اتصلت به عن شغفها به. يقطع عليها حبل التواصل وينصرف، لكنه في الوقت نفسه كان بدأ يتعرض الى صور خيالية صورها كوبريك بالأبيض والأسود لزوجته تمارس الحب مع ذلك البحّار. انه الوسواس الذي سيقض مضجعه ويبرر له فعلاته اللاحقة. حين يمشي في شوارع نيويورك تعترض طريقه غانية. تذهب به الى شقتها. لكنه وعلى الرغم من رغبته لا يمسها بسبب اتصال من زوجته التي تعتقد انه لا يزال في بيت الراحل. يخرج من البيت على عجل ويكتشف انه قريب من ناد ليلي كان صديق له اعطاه اسمه لأنه يعزف فيه على البيانو. يدخل د. هارفورد النادي ويتابع آخر وصلة عزف قبل ان يجلس صديقه تود فيلد اليه. خلال جلوسهما معاً، يتلقى العازف مكالمة هاتفية: عليه ان يؤم واحدة من تلك الحفلات التي اعتاد العزف فيها. يقترح د. هارفورد عليه ان يصطحبه معه، لكن صديقه يعتذر. انها حفلة خاصة جداً لأعضاء محددين. لكن د. هارفورد يصر بعدما أدرك انها حفلة خلاعية عارمة وهو يريد ان يجربها. يعطيه صديقه كلمة السر ويمضي معتقداً ان د. هارفورد لن يجد في هذه الساعة المتأخرة من الليل محل بيع اقنعة فاتحاً د. هارفورد يجد محلاً مغلقاً فيقرع بابه حتى يفتح صاحب المحل الباب ويستقبله بعدما عرض عليه مالاً وفيراً. ينتقل د. هارفورد الى الحفلة ويجدها كما وعد نفسه. الكثير من النساء اللواتي من بعد تأديتهن ما يبدو شعائر خاصة، ينصرفن الى تغيير الشريك في اي لحظة. لكن وجود د. هارفورد يثير الريبة اذ يقف متأملاً اكثر منه معتاداً على الرؤية. راغباً في المشاركة، اكثر منه مشاركاً. اذ يُكتشف انه دخيل يؤمر بنزع القناع وبنزع ملابسه، لكن امرأة مقنعة كانت حذرته تنقذه. انها المرأة التي انقذ حياتها في حفلة البارحة. يؤمر حينها بعدم الحديث الى أي كان عما شاهده والا فإن حياته وحياة آخرين ستتعرض للخطر. اذ يعود د. هارفورد الى بيته عند طلوع شمس اليوم التالي، يحمل معه كل تلك الاسئلة. يقرر اصطياد العازف ثانية لكن موظف الفندق الذي كان العازف ينزل فيه اخبره ان رجلين اصطحبا العازف بعيداً بعدما دفعا اجر حجرته. ثم يكتشف ان المرأة التي انقذته ماتت في الليلة ذاتها. في ذلك يدفع تعطشه الى أية امرأة اخرى غير زوجته التي لا تزال بطلة خياله المريض الى الاتصال بالمرأة التي مات والدها لكنه لا يجدها ثم بالعاهرة التي التقطته بالأمس لكنها رحلت بعد اكتشافها انها مصابة بالايدز. ثم يأتي ذلك المشهد المهم الذي يقع بينه وبين فكتور والذي يكشف فيه هذا الاخير انه كان في عداد حاضري الحفلة ربما كان اكثر من مدعو - لا نعلم ذلك ويحاول تبديد افكار هارفورد بأن هناك جرائم قتل نتجت عما حدث. انتصار الحب ما عمد كوبريك إليه هو التالي: منذ الفصل الأول وفي كل مشهد داخلي تقريباً، وزع كوبريك شجرة عيد ميلاد. ليس فقط لأن الاحداث تقع قبيل العيد مباشرة، وعلى مدى يومين، بل انه حوّل الشجرة الى رمز لمحبة مفقودة. الجميع يحتفل، بما في ذلك الخاطئون منهم، بل ان الجميع خاطئون، من بائع الاقنعة الذي يبيع جسد ابنته الصغيرة على الهامش، الى العاهرة، الى بيت الدكتور هارفورد نفسه. في المشهد الأخير يصطحب د. هارفورد زوجته وابنتهما الى محل بيع الألعاب بمناسبة عيد الميلاد. هناك يتبادل وزوجته الحديث عما حدث كان انهار واخبرها بما وقع في الليلة التي سبقت. فتاتهما تركض امامهما في المحل لتختار ما تريد وحديثهما راشد وناضج وشاذ على اساس الموقع الذي هما فيه. لكن في النهاية تخبره زوجته: "ما نحتاج اليه كثيراً الآن هو ان نحب بعضنا البعض". هكذا مزج كوبريك الرائع، الاجواء التي يعكسها "عيد الميلاد" بتلك المتبدية من التجارب التي خاضها الزوج وعانت منها الزوجة. وهكذا ينهي كوبريك فيلمه، ولأول مرة في حياته السينمائية ولآخر مرة اذ مات، بالأمل الجميل والوردي والساحر والباعث الى الحياة. امر ما كان كاتب السيناريو سيجد له على الورق مدخلاً الا اذا اقتنع بأن بطله سيكتشف انه ليس محور العالم كما هي المعاناة الحقيقية للشاعرين دوما بأنهم ضحايا ومنبوذون.