اختار مهرجان برلين في دورته الحادية والسبعين، هذا العام ان يضع المانيا في مواجهة ماضيها أو بعض منه على الاقل في فيلمين عرضا بالتعاقب: فيلم الافتتاح "آمي وجاغوار" ** من خمسة للمخرج الألماني ماكس فاربروك، و"الأيام الاخيرة" ** لجيمس مول، والفيلمان كلاهما يختلفان جذرياً في كل شيء ما عدا طرحهما الموضوع ضمن اطار الفترة النازية. الاول عبر قصة حب بين امرأتين، احداهما يهودية، والثاني عبر تصوير تسجيلي، تدعمه مشاهد وثائقية مصورة منذ ذلك الحين، لخمس يهود مجريين جيء بهم لكي يدلوا بشهاداتهم ويسترجعوا ذكرياتهم عن المحنة والهولوكوست. وعندما جلست رينيه فايرستون، وقد حضرت المهرجان كواحدة من هؤلاء الخمسة، لتواجه نقادا وصحافيين في المؤتمر الذي عقد بعد عرض الفيلم قالت "اذا ما أصغى الشعب الألماني، فان ما حدث هو درس مهم جداً". وغاية الفيلم، في رأيها، "تلقين الانسانية شيئاً" واضافت "اذا كنا نريد ان نرى الشيطان رؤية العين، فان علينا ان نرى تلك الحقبة". الى جانبها جلس منتج الفيلم ستيفن سبيلبرغ يقول: "بعد "لائحة شيندلر" تغيرت رؤيتي للافلام الواقعية. كنت اعتقد انها جافة ومملة". ويضيف: "فيلم كهذا لم يكن ممكناً انتاجه في اميركا لولا وجود مؤسسة تُعنى بمثل هذه المشاريع وهي مؤسسة "شواه" - تلك التي أسسها بما حصده من ارباح في "لائحة شيندلر" الفيلم الذي - يقول سبيلبرغ - غيّر مجرى حياته. فيلم جيمس مول ينحو صوب المزج بين التسجيلي والتوثيقي على نحو يتضمن التركيبة الروائية المؤلفة من ثلاث فصول: بداية، عقدة، خلاصة أو نتيجة. حقيقة انه عمل غير روائي انه فيلم يتعامل والمحنة اليهودية في تلك الفترة ويصور كيف عامل الألمان اليهود بقسوة بالغة ولم يمنع مول وسبيلبرغ من التخطيط لفيلم فيه فترات راحة خفيفة وبعض الضحك بل نهاية سعيدة على غرار "لائحة شيندلر". "الايام الاخيرة" فيلم من تلك التي تعرف كيف تتسبب في شعور بات مألوفاً: التباكي على المحنة والتذكير بها الى درجة الابتزاز. لكن المجتمع، السينمائى على الاقل، يبدو أقرب الى الاسفنجة التي تمتص ما يلقى عليها من دون على اعادة سرد المحنة، مرة بعد اخرى، كل عام في كل مناسبة ومن كل وجهات النظر الا من تلك التي قد تحمل طرحاً مختلفاً - لا نقول مغايراً. والتذكير، القاسي كصورة والمؤلم انسانياً بلا ريب يمضي ليتحول الى شيء من السلطة الفكرية بحد ذاتها. لكنها اي شيء وكل شيء باستثناء انها سينما عابرة. لا يمكن ان تكون عابرة وكل عام، في هذا المهرجان وحول العالم، هناك ما لا يقل عن نصف دزينة من الافلام التي تطرح الموضوع اليهودي. "آمي وجاغوار" هو مخرج عمل للتلفزيون منذ أواخر الثمانينات. أسلوب ماكس فاربربوك لا يزال يحمل طابع ماضيه. لكنه في الوقت ذاته فيلم قائم على احداث حقيقية: امرأة ألمانية اسمها ليلي فوست جوليان كولر لديها اربعة أولاد وزوج يقاتل على الجبهة تعتبر نفسها زوجة مخلصة ومثالية الى ان تتعرف على فيليس ماريا شرادر التي هي يهودية متخفية هرباً من المصير المحتوم. فيليس سحاقية وما هي الا بضعة مشاهد حتى يقع المحظور فتستجيب ليلي لفيليس وتنشأ بينهما علاقة قوية حتى من بعد ان تكتشف الاولى ان الثانية يهودية. الى الآن، تكشف مجلة "نيوزويك" في عددها الاخير، لا تزال ليلي تحب فيليس اسم المراسلة بينهما كان آمي وجاغوار - عنوان الفيلم. وكلتاهما لا تخلوان من غاية اشادة هالة مباعة سلفا لانهما تتعاملان مع الموضوع اليهودي في الحقبة النازية. اخلع عنهما هذه الهالة تجدهما فعلاً لا شيء يذكر. صوت يعلو بالاحلام ويهبط هذا على عكس تماماً من فيلم "صوت صغير" في قسم "البانوراما" الذي، كمعظم افلام العالم، عليه ان يستند الى قواه الذاتية للوصول الى مشاهديه وهو يفعل ذلك بموضوع أسر واداء جيد من كل المشتركين فيه. "صوت صغير" *** للبريطاني مارك هرمن يدور حول فتاة منعزلة تعيش في عالم منقطع عن رغبات فتيات اليوم أسمها "ليتل فويس" عنوان الفيلم وتقوم بها جين هوروكس. والدها مات وخلّف وراءه صورة معلقة على حائط غرفتها ومجموعة كبيرة من اسطوانات مارلين مونرو وشيرلي باسي وميرلين ديتريتش التي تصرّ ليتل فويس على سماعها وتغني معها في بعض الاحيان. تعيش ليتل فويس في بلدة صغيرة في الشمال الانكليزي غير محددة اي في البيئة التي نرى فيها شخصيات اخرى قابلة جدا للتصديق. هناك أمها ليندا يليثون المتصابية على كبر وراي ساي مايكل كاين الذي كان متعهد حفلات ونجوم يعيش الاضواء الشاحبة لماض ناجح، والذي يسمع صوت "ليتل فويس" فجأة فيهب لتبنيها ويقنعها بعد جهد، بإقامة حفلة غنائية يطلقها فيها كنجمة تعيد لحاضره النجاح والتألق الذي عرفه بالأمس. أهم ما يحدث لهذا الفيلم هو أن هذه الأمنيات لا تتحقق، وراي ساي يغوص أكثر في احباطاته بعد أن خذلته ليتل فويس في الحفلة الثانية وفضلت العودة الى ماضيها الصامت المطبق على عالمها كله. استحق كاين جائزة غولدن غلوب كأفضل ممثل في دور مساند عن إدائه هذا الفيلم، وهو فعلاً خبرة جوهرية بين كل ما يقدمه الفيلم من وجوه. انه ليس الفيلم المتكامل، لكنه شفاف يمس القلوب وفيه أداء جيد من كل ممثليه. صغير الحجم لكن ذلك لا ينعكس على الشاشة بفضل سيناريو يتحاشى المهمات الاستعراضية الكبيرة. محنة عائلية شيء من هذا العالم الأسروي موجود في "شيء واحد حقيقي" *** لكارل فرانكلين وبطولة ميريل ستريب ورينيه زلويغر وويليام هيرت. وهو عالم متعب أيضاً. "ليتل فويس" يصور، في ما يصوره، علاقة واهية متبادلة بين أم لاهية عن حالها بالبحث عن الشريك العابر وابنتها الغارقة في عالمها كرفض لحياة أمها، بينما "شيء واحد حقيقي" يأخذ على عاتقه تقديم علاقة واهية وان كان وهنها من طرف واحد. طرف الإبنة التي اضطرت لقطع خطواتها المستقبلية على شفير تحقيق صحافي لا يفتح آفاقاً والحياة في المدينة والعودة الى بيت أبويها لأن أمها ستريب مريضة بالسرطان وأبوها هيرت لديه وظيفته الجامعية التي لا تمنحه فرصة العناية بها. الإبنة كانت رفضت شخصية أمها السعيدة لكونها مجرد زوجة وربة بيت وها هي تعود اليها متأففة، تكتشف من جديد كل تلك العلاقات الاجتماعية التقليدية بين أمها وجاراتها التي جعلتها تصر الهجرة الى المدينة الكبيرة. لكن هذه النظرة تتأثر بعد ذلك، من دون أن يكف الفيلم عن سبر غور تلك العلاقة بين الأم وابنتها، عندما يشتد المرض على الأم وتصبح غير قادرة على الحركة وحدها. دراما عائلية بيضاء من مخرج أفرو أميركي هو كارل فرانكلين الذي يجيد توليف الحكاية. لكن أهم ما حققه فرانكلين يكمن في ما نفذه سابقاً: "حركة واحدة مزيفة"، فيلم بوليسي داكن ومتقن للغاية حققه في العام 1991 فقدمه حق تقديم، ثم "الشيطان يرتدي الأزرق"، وهو بوليسي آخر إنما أقل دكانة ووحشة ولو أنه مصنوع جيداً وقد عرض الصالات في العام 1995. أفلام من المنطقة الفيلم الإسرائيلي "شعور بلدي" ** هو لمخرج جديد ولد في تورنتو بإسم جوناثال ساغال لكن عائلته هاجرت الى حيفا. درس الموسيقى والدراما في لندن وحين عودته ظهر في سلسلة أفلام كوميدية اسرائيلية بعنوان "ليمون بوبسايكل" معمولة على نسق السلسلة الكوميدية الأميركية "بوركي". وهو الآن، كما يعرف عن نفسه، واحد من فريق عمل فلسطيني/ اسرائيلي مشترك على مسلسل "شارع سيسامي" التلفزيوني. "شعور بلدي" يتولى سرد حكاية مشاهدة من قبل مرات عدة في أفلام عدة: وصول غريب الى بيت هادىء وإحياء مشاعر كانت ميتة وقلب نظام حياة كانت خمدت. في هذه الحالة هناك زوجة اسمها ايفا دفنا رختر لديها ولد في الثامنة من العمر وزوج يعمل محاسباً. الحياة هادئة ومن دون اثارة الى أن يأتي لزيارتهما صديق قديم لزوجها يحتل مكاناً له في البيت... ويغير من نمط السائد كما يريد مودياً بالمؤسسة الزوجية الى الانهيار. وينتهي الفيلم بإيفا وقد تركت الرجلين وأخذت ابنها الى مكان منعزل لتعيش بمفردها. إذا كان هذا أفضل ما لدى السينما الإسرائيلية تقديمه هذا العام، فمعناه أنها لا تزال على حالها من الهوان. فجوّه مسرحي واضح والقصة تنشد لنفسها بضعة مواقف تأمل أن تكون حادة ومفاجئة لكنها لا تؤدي ما هو متوقع منها. الفيلم التركي "رحلة الى الشمس" **** أفضل منة كثيراً وهو الثاني للمخرجة يسيم أوسطأوغلو وفيه معالجة لا تكتفي بالقراءة الاجتماعية، بل هو ينتقل الى التعاطي مع الوضع السياسي الداخلي التركي بجرأة تدفع المرء للتساؤل كيف تسنى لهذا الفيلم الخروج من كم النظام الصارم. جرأة تركية! يتحدث الفيلم عن صداقة بين شابين هما برزان ومحمد كلاهما من مقاطعة الأناضول، لكن واحداً من شرقها والثاني من غربها. وككل المهاجرين الى المدينة من الريف، تركا موطنهما بدافع البحث عن عمل في المدينة. محمد يعمل في البلدية، قطاع إضلاح الأنابيب المضروبة، والآخر لديه عربة يبيع عليها أشرطة الكاسيت. يلتقيان صدفة عندما ينبري محمد للدفاع عن ركاب سيارة هاجمها جمهور هائج بعدما فاز أحد الفرق الرياضية التركية بالبطولة. وحينما اندفع البعض ضدمحمد انضم اليه برزان وساعده في الخلاص. بعد أيام قليلة يتعرض محمد لحادث آخر إذ يعتقده البوليس كردياً ارهابياً بعدما اتهمه بحمل سلاح تهمة هو بريء منها فيضربه ويسجنه ثم يطلق سراحه مهدوماً. تلتقطه صديقته التي تحبه ولحين تبدأ الأحداث باللعب على هذه الشخصيات الثلاث. وهناك مشاهد رقيقة جداً بين محمد وصديقته خالية من الإثارة العاطفية لكنها رومانسية تعبر عن البراءة المتجسدة في حب عذري صادق ومهدد. برزان يهرب أيضاً من البوليس لكنه في النهاية يقع في أيديهم ويموت في التعذيب. يقرر محمد أن ينقل رفات برزان الى قريته الواقعة على الحدود التركية. الثلث النهائي من الفيلم هو نوع من "فيلم الطريق" Road Movie ينفرد فيه محمد بقيادة شاحنة صغيرة الى ذلك الشمال البعيد والمهجور حيث التواجد العسكري في مواجهة ارهاب يُقلق السلطة بثقل كما في المدينة، وحيث الحياة راكدة في خوف والقرى خالية من أصحابها وتحمل علامة "إكس" يرسمها البوليس بالأحمر على أبواب البيوت التي يعتقد أن أصحابها مناوئون لها. المشهد الأخير لمحمد وهو يضع كفن صديقه على صفحة مياه النهر ويرسله بعيداً. لقد وصل الى قريته ووجدها مطمورة بالمياه وخالية من السكان، تركه يرحل على صفحة الماء كما لو كان برزان في بداية رحلة ستأخذه الى غير هذا العالم المثقل بالأحلام المجهضة.مثل "المحطة الرئيسية"، الفيلم البرازيلي الذي خطف الدب الذهبي في العام الماضي في هذا المهرجان "رحلة الى الشمس" فيلم واقعي يتحدث عن الفرد في المجتمع. وأكثر من ذلك الفيلم الذي أخرجه وولتر سايلز والمرشح حالياً لأوسكار أفضل فيلم، فإن الفيلم التركي لديه الكثير مما يقوله عن تركيا اليوم: التناقض بين دلائل المجتمع الإسلامي والإنفتاح المواجه، خوف السلطة من فقرائها ومهاجريها وتعسفها في معاملتها لهم سواء أكانوا أتراكاً يشتبه بأنهم يساريون أو أكراد يشتبه بأنهم إرهابيون. انها الآفاق الضيقة للحياة وسط كل ذلك والهجرة التي تدفع الناس لترك الريف الجميل المكان الطبيعي للحياة الى المدينة حيث كل ظوهر التشرد والفاقة مجسدة تماماً. هذا الفيلم من نتاج منفصل من الأفلام التركية لم يتسن لنا مشاهدته من قبل إلا في أفلام ما زال تداولها في تركيا ممنوعاً الى الآن وفي طليعتها أفلام يلماز غونيه. تافرنييه الاجتماعي وهناك طرح اجتماعي مهم آخر آتٍ هذه المرة من فرنسا. المخرج الفرنسي برتران تافرنييه لديه ما يقوله حول وضع البيئة الاجتماعية في بعض مناطق فرنسا. في "كل شيء يبدأ اليوم" يدور حول جهد ناظر مدرسة في بلدة أرناينغ لحل مشاكل متوالية يتعاطاها من موقعه مع المسؤولين والحكومات كما مع الأهالي. فنظراً لوضع اقتصادي ميت تعانيه المنطقة، تتزايد المشاكل التي يعانيها الأطفال في البيت كما في المدرسة. ولعل المشهد الذي تتحدث فيه إحدى المدرسات الى شخص لا نراه يجسد الجمهور ذاته يعبر عن كل ما يتولى الفيلم قوله في صور. تقول: "في السابق كان لدينا 45 طفلاً وكنا أكثر نظاماً. كانوا يأتون الى هنا في الوقت المحدد وهم في أتم الاستعداد لبدء اليوم المدرسي وفي نظافة تامة. اليوم عددهم 30 طفلاً لا يأتون مطلقاً في الموعد المحدد وهم شديدو القذارة. والأخطر من ذلك أن أولياءهم الذين يعانون من الظروف الصعبة كفوا عن محاولة تأهيلهم. هؤلاء الأطفال يأتون الى هنا لا يعرفون سوى ما نريد أن نأكل أو نريد أن نشرب. نعلمهم هنا حتى كيف يقولون "صباح الخير"، لقد تم توكيلنا بهم كلياً...". من الواجب التذكير بأن الأحداث تقع في فرنسا وليس في كينيا أو أفغانستان. مع ذلك "كل شيء يبدأ اليوم" *** في تصويره سعي المعلم لمجابهة أسباب هذا السقوط وهو فيلم واقعي تماماً، أسلوب المخرج المعروف القائم أكثر وأكثر منذ سنوات بعيدة على كاميرا محمولة، مناسب جداً ولو أن لهذا الأسلوب حدوده القصيرة إبداعياً. لكن هذا الجانب سيبقى للباحثين المؤمنين بأهمية الكلمة على الصورة وأنا لست منهم عملاً أساسياً بل فذاً كونه يرصد واقعاً يصفع المشاهد الفرنسي الذي سيتساءل، في حين يباشر في عرض الفيلم هناك، كيف انحدر الوضع الاجتماعي والاقتصادي وهما مرتبطان جداً في هذا الفيلم الى مثل هذا الشأن الذي نادراً ما عرفه المجتمع الفرنسي وصوّرته السينما المعاصرة.