على رغم تعهده اثناء حملته الانتخابية بسن دستور للدولة العبرية اضطر ايهود باراك في النهاية للاستسلام للواقع السياسي والحزبي في اسرائيل كما فعل كل رؤساء الوزراء السابقين. لم يتردد باراك في دغدغة مشاعر العلمانيين أثناء الانتخابات من طريق الوعد بسن دستور يكفل تقليم أظافر الأحزاب الدينية والحد من نفوذها وتقليص قدرتها على فرض شروطها على حياة "الغالبية العلمانية" وتهديدها لاستقلالية الجهاز القضائي، الى التهديد بسحب الامتيازات التي يتمتع بها المنتسبون للتيار "الديني الارثوذكسي" الذين - حسب تعبيره - لا يساهمون في تحمل اعباء الدفاع عن الدولة. وما ان ظهرت نتائج الانتخابات ادرك باراك استحالة تشكيل حكومة برئاسته من دون ضم الأحزاب الدينية التي تلعب دور ابرة الميزان لدى تشكيل الائتلافات الحكومية. كان بامكان باراك تشكيل حكومة علمانية خالصة بالائتلاف مع "الليكود" تكون قادرة على سن الدستور. لكن مثل هذه الحكومة ستكون انسب "وصفة" للجمود على الصعيد التفاوضي مع العرب، وهذا ما لا يحبذه. ابتلعت حركة "ميريتس" تهديداتها الانذارية بعدم الانضمام للحكومة في حال عدم سن الدستور. وكرر رئيس الحركة ما قاله اثناء الحملة الانتخابية من ان اسرائيل بحاجة الى دستور "ليبرالي" ينص على وجود ضوابط لضمان قدرة الغالبية على املاء رأيها على الأقلية، وخصوصاً في القضايا المتعلقة بالدين أو تلك التي تحدد حقوق الفرد وتنظم العلاقات بين السلطات الثلاث. وعلى رغم الحماس الشديد الذي تلقاه فكرة سن دستور في أوساط الجمهور العلماني الا أنه من خلال الجدل الذي دار حول هذه القضية ظهرت خلافات واضحة بين الساسة والمفكرين العلمانيين ازائها، فابراهام بوراز الرجل الثاني في حزب "شينوي" العلماني يرى ان استقرار النظام السياسي الديموقراطي في اسرائيل يتطلب سن دستور يتساوى أمامه الجميع، ويتهم عضو الكنيست موتي زمبرغ كلا من حزب العمل وحركة "ميريتس" ب"النفاق" بسبب تنازلاتهما للأحزاب الدينية. ويعبر الشاعر يهود عامي حاي عن حماسه لسن الدستور قائلا بعبرية بسيطة "شلطون هروف لو هراف" أي "حكم الغالبية وليس حكم الحاخام". اذن المتحمسون لسن دستور للدولة العبرية انما يريدون وقف ابتزاز الأحزاب الدينية للدولة و"تشويهها" للنظام السياسي، وهؤلاء يشعرون ان نتيجة الانتخابات وطابع البرلمان الجديد تسمحان بسن هذا الدستور، اذ توجد غالبية علمانية داخل الكنيست الجديد تؤيد سنه، سيما وأن رئيس الوزراء المنتخب تعهد بذلك. في المقابل تلقى فكرة سن دستور معارضة كبيرة ليس فقط داخل أروقة المؤسسات الدينية الحريدية، بل من قبل مفكرين وباحثين علمانيين مرموقين. يرى البروفسور مايكل منكستر الباحث في مركز الدراسات العليا في جامعة برنستون الولاياتالمتحدة ان الدستور كما يرنو اليه العلمانيون لا يمكن أن يكون رمزاً لوحدة "الأمة اليهودية"، فالمجتمع الاسرائيلي "ذو طبيعة قبلية" ومن المستحيل ان يشكل دستور ناظم للاستجابة لمتطلبات التيارات المختلفة فيه، وحسب منكستر فإنه من المستحيل التوفيق بين "القبلية" في المجتمع الاسرائيلي والهوية الجماعية التي فرضتها ظروف نشأة وتطور المشروع الصهيوني، ومن قبل بمزج اشتراكية الصهاينة والدين الارثوذكسي فإنه كان من الأجدر به الا يسرع في الحديث عن دستور. الكاتب حادي طاوب لا يقبل الادعاء بأن سن الدستور سيقود الى "تعزيز وحدة شعب اسرائيل"، ويضيف "اذا لم يكن هناك اجماع على القضايا الأساسية فإن الدستور لن يحقق الوحدة". وبالنسبة لطاوب فإنه يرى في ديمومة الاختلاف أمر "جيد وايجابي"، إذ ان انعدام الوضوح في المشهد الصهيوني يتيح الفرصة لكل القطاعات الاثنية والاجتماعية الحصول على مبتغاها، فالصهيونية العلمانية ترى في اليهودية "قومية" لا تتناقض مع الدين، والصهيونية الدينية ترى في اليهودية "دين" لا يتناقض مع القومية. يستذكر منكستر ان ديفيد بن غوريون رئيس الوزراء الاسرائيلي الأول رفض سن دستور للدولة العبرية خشية تفجير الصراعات بين قطاعات اليهود في وقت كانت تخوض اسرائيل فيه حرباً ضارية على وجودها، حيث كان يرى في ذلك واقع لا يمكن أن يستفيد منه الا "الاعداء العرب". وما زال الكثيرون في اسرائيل يرون ان هذه الحرب لا زالت مستمرة، وعلى رغم توقيع معاهدات سلام مع عدد من الدول العربية فإن وزير الدفاع السابق ورئيس حزب الوسط اسحق مردخاي يقول ان هناك مخاطر جدية تجعل من "السخف الانتباه الى قضية تبعث على الفرقة والصراعات الهامشية". الكاتبة ايريتس مزراحي ترى انه من المستحيل الآن الحديث عن سن دستور قبل التوصل الى تسويات سياسية نهائية مع الدول العربية والفلسطينية. وتفسر مزراحي رأيها هذا قائلة انه في حال التوصل لحلول سلمية مع العرب بشكل دائم فمما لا شك فيه ان طبيعة العلاقات داخل قطاعات الشعب الاسرائيلي ستتغير وفقاً لذلك، كما ان مثل هذا التطور "يستوجب استحقاقات قانونية من المفترض ان يراعيها أي دستور". وحتى التوصل الى تسويات سياسية دائمة مع العرب فإن مزراحي تنصح بإبقاء الوضع القائم على ما هو عليه الآن. من ناحيته يشير الكاتب جدعون ليفي الى عائق آخر أمام سن الدستور وهو وضع العرب في اسرائيل، ويتساءل ليفي "كيف يمكن أن تكون اسرائيل دولة ديموقراطية ويهودية". ويرى ليفي انه آن الاوان "ان ينص أي دستور مستقبلي لاسرائيل على انها دولة لكل مواطنيها". ما يطرحه ليفي يغضب مايكل منكستر الذي يقول "ان كل من يدعي ان اسرائيل يجب أن تكون دولة لكل مواطنيها انما يرتكب خطأ ولا يأخذ التاريخ اليهودي بالحسبان". ويضيف "اسرائيل تواجه واقعاً معقداً رغم مشروعية وجودها وعليها أن تواصل وجودها كدولة قومية يهودية". المؤرخ اليميني البروفسور يهوشع بن بورات أحد أبرز دعاة شن الحرب على المؤسسة الدينية يتخذ موقفاً معارضاً وغير متوقع من الدستور، فهو يرى ان كل من يدعو الى ان يسن البرلمان الحالي دستوراً فإنما يدعو الى ديمومة هذا الواقع، ويتساءل بورات قائلاً: "اذا كانت تركيبة البرلمان الحالي تسمح بسن دستور ملائم للعلمانيين، فإن الدستور سيبقى معتمداً ما دامت موازين القوى البرلمانية تسمح بذلك" معاريف 9/6/1999، وبدلاً من ذلك ينصح بورات بأن تخضع مسألة الدستور لنقاش جماهيري عميق وشامل يمتد حتى فترة طويلة وبعد ذلك تجرى انتخابات لاختيار أعضاء مجلس خاص مهمته سن بنود الدستور حتى تكون هذه البنود غير قابلة للتغيير أو المراجعة، ويستذكر ان هذا هو النموذج الذي اعتمد في أميركا قبل قرنين من الزمان، ويخلص بورات الى القول ان من يريد استغلال التركيبة الحالية للبرلمان فإنما يريد تبني النموذج الفرنسي، اذ يتم تغيير مواد الدستور تبعاً لطبيعة تركيبة المجلس النيابي. وحسب بورات فإن محاربة الأحزاب الدينية تتطلب إرادة سياسية، وذلك عبر سن قوانين أساسية تقلص الامتيازات التي توارثتها، ويذكر بورات رئيس الوزراء الجديد ان تجنيد طلاب المدارس الدينية لا يحتاج الى دستور بل الى قرار من وزير الدفاع الذي يخوله قانون "الخدمة الوطنية" دعوة من يراه مناسباً للخدمة العسكرية. كما انه لا يمكن الانتهاء من تمويل مؤسسة التعليم الديني المستقل عبر شطب مخصصاتها من الموازنة. باراك لم يشذ عن اسلافه وبسبب حاجته لتأييد الأحزاب الدينية تنازل عن سن الدستور، لكن ذلك لن يساهم الا في زيادة حدة الاستقطاب داخل المجتمع الاسرائيلي. * صحافي فلسطيني.