في وقت قرر أعضاء حركة السلام المصرية الاسرائيلية عقد مؤتمرهم الذي جرت وقائعه في القاهرة يوم الخامس من تموز يوليو 1999 يبدو أن أحداً - بما في ذلك الرافضون انفسهم - لم يكن يتوقع ان تكون ردة الفعل المضادة على النحو الغاضب الذي حدثت به. ويمكن لكثيرين من الأحزاب والقوى المصرية الرافضة لمنهجية تحالف كوبنهاغن، بعد ان اصدروا أحكامهم تخويناً وتكفيراً ونزعاً للوطنية وأقاموا مؤتمراتهم الشعبية ان يشعروا بقدر من الرضا، فقد نجحوا في إثارة نوع من الغضب الشعبي لم يحققوه من قبل، كما انهم بتحركاتهم المكثفة - حتى وإن كانت في قاعات فنادق لم تحتمل سوى عدد قليل من الحضور - ساهموا في "تسخين" الوضع السياسي الداخلي، وشكلوا قضية ستكون مجالاً للأخذ والرد لأسابيع مقبلة. لكن الامر الذي لم يطرح بجدية بعد هو: هل إثارة الغضب وإهالة التراب على المنتسبين، مصريين كانوا او عرباً او اسرائيليين، الى هذا التحالف الدولي الاقليمي تكفي في عملية مواجهة التطبيع، ام أن الامر يتطلب منهجية جديدة، تفكيراً وحركة سياسية؟ يبدو لي ان هذا التساؤل محوري الى حد كبير، إذ ان الإجابة عنه ستعكس حتماً نوع الاستراتيجية الحزبية - الشعببية التي ارتضتها الاحزاب السياسية المصرية ونقابات ومنظمات شعبية كإطار لحركتها المستقبلية لمواجهة اي جهد تطبيعي، سواء جاء تحت مظلة الحوار السياسي او الجهد المخطط الموجه الى الادراك الجمعي للشعوب العربية. وغالب الظن انه لا توجد بعد استراتيجية - بالمعنى الحرفي للكلمة المتضمن قيماً وأهدافاً وسياسات عملية وبرامج محددة - وهو ما أظهرته حركة الرفض الحزبية لمؤتمر القاهرة الآنف الذكر، فعلى رغم ان تحالف كوبنهاغن وما انبثق عنه من انشطة وجمعيات ولقاءات تقترب من العامين عمراً، فإن الحركة الشعبية والحزبية المضادة ظلت على حالها القائم على رد الفعل الغاضب والرافض وذي الطابع الانفعالي الوقتي. صحيح ان بعض التحركات المضادة استهدف ما يمكن وصفه وقف التدهور في الادراك الجمعي للأجيال الجديدة، تحديداً إزاء حقائق الصراع العربي - الاسرائيلي، وهو هدف عزيز يتطلب جهوداً أكبر بكثير من مجرد تلك المؤتمرات الشعبية السياسية التي تختلط فيها الكلمات الجادة بالشعارات الحماسية والادانات والانفعالات. وكشفت المواجهة بين دعاة الحوار مع قوى اسرائيلية وبين رافضي هذا المسلك ان هناك فارقاً نوعياً في اساليب العمل على الجانبين: الاول مخطط ومدعوم من جهات دولية عدة وله جدول اعمال محدد، يستهدف التأثير على وعي اجيال حاضرة مقبلة معا، ويعمل وفق برنامج فيه تداخل بين الرمزيات والتحركات الملموسة. اما الثاني فهو اقرب الى ردة الفعل، يغلب عليه الطابع السياسي الآني، ويفتقر الى جدول اعمال مستقبلي، ويفتقر الى الدعم الخارجي الاميركي او الاوروبي، لكنه محاط بتأييد داخلي واسع ومساندة عربية. ليس غرض هذه المقارنة العابرة التقليل من شأن ما حدث، ولكن الغرض إظهار مكامن القوة والضعف، والمساعدة في انشاء حركة سياسية مصرية عربية مضادة اكثر استمراراً وفاعلية. ثمة مشكلة اذاً اظهرتها حركة الرفض لمؤتمر القاهرة، وهي ذات شقين، اولهما ان ازمة العمل السياسي الحزبي في مصر باتت مستحكمة الى حد كبير، فمجال الحركة امام الاحزاب الرسمية محدود الى اقصى درجة، كما ان قدرتها على عمليات التجنيد والتنشئة الحزبية المستمرة تواجه بعقبات وقيود كثيرة. الاكثر من ذلك ان قدرة الاحزاب على التجديد الداخلي تكاد تكون معدومة، صحيح ان هناك فئات من الشباب تعلي صوتها بالشعارات داخل قاعات الفنادق اشبه بما يفعله الطلاب في اروقة الجامعات، لكنها قد لا تستطيع تجاوز هذا الفعل الى صوغ رأي متكامل في ما يجري، وفي حال سياسية كهذة تصيب كل الاحزاب بلا استثناء تبدو القدرة على تجديد لغة الخطاب الحزبي وآليات التحرك الشعبي غائبة او على الاقل غير فاعلة، نظرا الى كونها تقليدية ومكررة وذات طابع "شعاراتي". وتجسد ذلك في تكرار الوجوه الناطقة باسم تجمعات او احزاب او تيارات، وكأن الاجيال الجديدة لا قدرة لها على الوصول الى مواقع قيادية، لا خارج اطر السلطة ولا حتى داخل الاحزاب المعارضة. قد تبدو الرموز الوطنية اكثر تعبيرا عن مواقف نضالية مشهودة، لكن الحركة السياسية الفاعلة تتطلب ما هو اكثر من الرموز، مع احترامنا وتقديرنا الشديد لكل ما تحمله ولكل ما تعنيه من قيم وتضحيات. الشق الثاني غياب الحركة الجماعية في ما يتعلق بالقضايا الوطنية محل التوافق العام ولا نقول الاجماع، فقضية مثل السلام العادل والشامل الذي يعيد الحقوق العربية ويوقف المد الصهيوني الاسرائيلي تجد قدراً من التوافق العام يندر ان تجده قضية وطنية اخرى. ومع ذلك لم نجد لا في مصر او في دول عربية اخرى تحركاً جماعياً بعيدا عن المماحكات الحزبية والمواقف القصيرة النظر يشكل دعما علميا وسياسيا ومنهجيا لهذه القضية وللمفاوض العربي الذي بات مفروضا عليه التفاوض في ظل ميزان قوى مختل بكل المعايير، وكأن الأحزاب السياسية المصرية والعربية بدلا من ان تسهم في تعديل ميزان القوى المختل وتقدم المساندة المطلوبة - معنوياً - للمفاوض العربي، ساهمت عمليا في مزيد من تعريته وانكشافه امام عدو مزود بكل اسباب القوة المادية. السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: لماذا جاءت مواقف الرفض والغضب الحزبي في مصر على هذا النحو؟، وهل يعني ذلك صحوة في العمل السياسي المصري، ام فورة غضب عابرة، ام بداية لتحرك منهجي على المستويين القومي والوطني؟ هذه الاسئلة وغيرها تعبر عن مدى الشكوك التي تثور ازاء اعمال او مواقف اقرب الى الانفعال منها الى المواجهة المدروسة المخططة. لكن، دعونا نأمل ان تكون تلك المؤتمرات الحزبية الرافضة بداية لإدراك ووعي صحيحين على المستوى الوطني والحزبي معا، بأن مواجهة التطبيع او تقديم المساندة الى المفاوض العربي تحتاج الى ما هو اكثر من شجب او إدانة بعض الذين طرحوا وجهة نظر اخرى وانخرطوا في اعمال مخططة وذات آفاق معلومة، وأن هذه المواجهة تتطلب شروطاً اولها خطة عمل تشترك فيها كل الاحزاب والقوى الوطنية والنقابات وبحيث تنصهر معا في اطار مؤسسي جامع. فمثل هذه المواجهة ليست مسؤولية حزب أو مجموعة من الشخصيات والرموز الوطنية والفنية، انها مسؤولية كل القوى السياسية شريطة التعالي عن الاهداف الحزبية الآنية. وفي هذه المؤسسة التي قد تأخذ شكل جمعية او جماعة او منتدى سياسي، ثمة حاجة قصوى الى اعتماد منهجية طويلة النفس، قليلة الانفعال بعيدة عن ردات الفعل الغاضبة الموقتة والمنتظرة هنا او هناك، لكي تنتفض غضبا ورفضا وشجبا، مستندة الى اسس علمية، تستهدف بناء وعي الاجيال الجيدة وتنشيطها وحفزها دائما بالحق العربي المسلوب، مسلحة بالدراسات والمعلومات والندوات وورش العمل على مدار العام من دون توقف، ومنتجة لمطبوعات تصل الى اوسع فئة ممكنة تشمل المواقف المصاغة بحكمة ووضوح حول التطورات الجارية وآفاقها المختلفة، وتدرس تجارب الآخرين في المقاومة الشعبية - كما يجري في جنوبلبنان - واسباب نجاحها وكيف يمكن تعميمها، ولماذا يظل سلاح المقاطعة الشعبية مشروعاً، والمخاطر التي ينطوي عليها التطبيع الاقتصادي والثقافي والشعبي في وقت لا تكتمل فيه قوة العرب الاقتصادية او العسكرية، وماذا يعني تعبير ثقافة السلام وكيف يطرح تطبيقه، وما هي السير الذاتية لقادة اسرائيل، وغير ذلك من مواضيع تدخل في إطار المواجهة بعيدة المدى. إن المواجهة الجماعية المخططة والتحول من سياسات النفس القصير الى سياسات النفس الطويل هي المحك الاول للنجاح، خصوصا ان مواجهة التطبيع ستظل واحدة من المعارك السياسية المشتعلة في مصر ودول عربية اخرى مادام مفهوم التسوية السياسية نفسه المقبول مصرياً وعربياً غير محدد المعالم ويخضع بدوره لاجتهادات شتى رسمية وشعبية. * كاتب مصري.