شهدت الحال الحزبية المصرية في الآونة الأخيرة حدثين أكدا بشكل لافت مأزومية العمل الحزبي في مصر وكشفا عن خلل خطير في الاداء الميكانزمي للعملية الحزبية برمتها، وأثارا من ثم الانتباه الى ضرورة مراجعة شاملة لها تشريعياً وسياسياً وواقعياً. تمثل الحدث الاول في التطاحن على زعامة حزب "الأحرار" عقب وفاة زعيمه مصطفى كامل مراد ونزوله الى درك العراك باستخدام عبوات وأدوات وعناصر من غير مفردات العمل السياسي أو الحزبي. ولجوء المتنافسين هنا الى خيار العنف لا يبعث على الطمأنينة، ويساهم بشكل لافت في زعزعة ثقة رجل الشارع في قدرة كثير من الاحزاب الموجودة على التغيير، أو على الاقل شكك في قدرتها على منافسة الحزب الوطني الحاكم. وكان الحدث الثاني مكرساً لحال الفتور التي يعاني منها الشارع السياسي بصدور قرار لجنة شؤون الاحزاب بعدم الموافقة على قيام حزب "الوسط" الذي تقدم المهندس ابو العلا ماضي بأوراقه الى السلطات المعنية، وكيلاً للمؤسسين الذين شكلون شريحة من صفوة المثقفين الاسلاميين الطامحين الى ممارسة حقوقهم الدستورية والسياسية بشكل مقنّن. كانت وفاة السيد مصطفى كامل مراد هي الخيط الرفيع بين تماسك حزب "الأحرار" ووجوده في الحياة السياسية في مصر، وانفراط عقده ودخول قياداته في نفق الخلافات والصراعات على تقسيم المقاعد القيادية بين رفقاء الامس الذين ترقبوا وفاة زعيمهم منذ سنوات طويلة. ويكاد يكون السيناريو متشابهاً الى درجة مملّة مع ما سبقه من أحداث مماثلة في أحزاب "مصر الفتاة" و"العدالة الاجتماعية" و"الخضر" و"مصر العربي". بل يراهن كثير من المراقبين على الاحتمالية المرتقبة لتكرار الاحداث نفسها بصورة او بأخرى في حزبي "العمل" و"الوفد" الا ان الرؤية المنهجية نسبياً في الحزبين الأخيرين وما يضمان من قيادات لها ثقل سياسي حقيقي وعطاء قديم وتاريخ موروث، قد تُخفّف من طبيعة الصراع المحتمل بقدر كبير، لكنها لن تفلح، على الارجح، بشكل حاسم في تفاديها. وكشفت الأحداث الاخيرة في حزب "الأحرار" المصري، عن خلل عميق في التركيبة الحزبية ومأزومية العمل السياسي الجماهيري من خلال الاطر التي حددها النظام لمشروعية الاداء السياسي وحصرها في مجموعة احزاب تحركت من داخله، وارتبطت بالتالي بكل ما يطرحه من منهجيات. فالرئيس الراحل أنور السادات هو الذي اختار بعض الرموز الوطنية دون بعضها الآخر ليكوّنوا منابر سياسية في محاولة للخروج من فعالية الحزب الواحد التي حكمت البلاد طيلة الجمهورية الناصرية. لكنه في مساعيه تلك جهد في ربط هذه المنابر به شخصياً، حتى انه استخدمها في ايجاد دعم سياسي داخلي له في مواجهة المعارضة الحادة عربياً واسلامياً التي واجهته عند ابرامه اتفاقات كامب ديفيد. وكانت هذه الرؤية التي حكمت علاقة السادات بالمنابر من خلال اختياره للشخصيات التي سلّمها قيادها، هي بالضبط ما حكم علاقة رؤساء هذه المنابر بمن تم اختيارهم لتقلد المناصب القيادية بها. وتكرست هذه العلاقة بتحويل تلك المنابر الى احزاب، مما استغرب معه كثيرون مطالبة زعماء المعارضة المصرية الحزب الوطني الحاكم بالديموقراطية، وضرورة تداول السلطة، في الوقت الذي احتكر فيه رؤساء الأحزاب جميعهم السلطة داخل أحزابهم، استوى في ذلك اليمين واليسار. وارتبط العمل داخل هذه الاحزاب بأشخاص رؤسائها من دون وجود آليات حقيقية تعمل على تحضير القرار واتخاذه. وذلك هو مكمن الداء في الحياة السياسية وموطن الخلل في عدم تدفق الدماء في شرايين الاحزاب المصرية، وعدم قدرتها على تحريك الجماهير وانصرافها عنها. ذلك هو أهم الأسباب في اشكالية هامشية الاحزاب في مصر، ثم تأتي بعده أسباب أخرى مختلفة، تتمثل في القيود المفروضة على حركة هذه الاحزاب ومنعها من التواصل الجماهيري بصورة طبيعية، ومنها تسيير العمل بصورة بيروقراطية مع وجود كوادر حزبية اقرب الى الموظفين منهم الى السياسيين. لذلك كان التجاوب الشعبي بطريقة لافتة للنظر مع التجربة الوفدية الجديدة عند الاعلان عن قيام حزب "الوفد" الجديد، لشعور رجل الشارع ان حزب "الوفد" لم يستسلم للجنة شؤون الاحزاب في قرارها رفض قيام الحزب. وكان إعلان تأسيس حزب "الوفد" الجديد بقرار قضائي، من غير ارادة الحكومة من اهم عوامل إقبال الجماهير على هذا الحزب اكثر من كونها رغبة شعبية في العودة الى التأييد المطلق لسياسات حزب "الوفد" القديم. ومما ساعد على تأكيد هذا التجاوب الجماهيري السياسة الصحافية الجريئة التي اتبعها مصطفى شردي أول رئيس تحرير لصحيفة الحزب الوليد وتركيزه على قضايا الحريات، وما واكب ذلك من الإعلان عن قيام التحالف الذي عقده "الوفد" مع "جماعة الاخوان المسلمين" باعتبارها الاكثر قدرة على تعبئة الرأي العام وشغله بالقضايا الوطنية. ولاقت المؤتمرات التي دعا اليها التحالف الوفدي - الاخواني اقبالاً ملحوظاً بما يؤكد الحس السياسي الاصيل لدى الشعب المصري والذي يتجاوب مع الاداء الحزبي الذي ينطلق من ممارسات تلقائية وحركة وطنية غير مصطنعة. لذلك كان على حزب "العمل" ان يبذل جهداً كبيراً قبل ان يجد له موضع قدم على خريطة الاداء الحزبي على رغم الرصيد الكبير لرئيسه ابراهيم شكري وكثير من قياداته التي تعد امتداداً لحركة "مصر الفتاة". كان حزب "العمل" في حاجة الى فترة زمنية معقولة يتناسى فيها الرأي العام طريقة إنشائه وتحفظه اولاً في عدم معارضة كامب ديفيد، ولم يتحقق ذلك بشكل حاسم الا حينما صعّد الحزب مواقفه السياسية الرافضة لاتفاقات كامب ديفيد، وفتح الباب لمشاركة قوى وطنية مستقلة للكتابة في جريدته "الشعب" التي تبنت معارضة السادات بشكل حاد. غير ان الخطوة الرئيسية التي دفّقت الحيوية الى حزب العمل كانت في قيادة كل من عادل حسين ومجدي احمد حسين عملية تحول من الاشتراكية الى الأسلمة، الأمر الذي حقق له وجوداً قوياً على خريطة العمل السياسي والحزبي في مصر، وما تبع ذلك من الإعلان عن تحالف استراتيجي بينه وبين "جماعة الاخوان المسلمين" وحزب "الأحرار". أما الحدث الثاني فتمثل في القرار الذي اتخذته لجنة شؤون الاحزاب بعدم الموافقة على مشروع برنامج حزب "الوسط" وحظر تأسيسه. ومن نافلة القول التذكير بأن هذه اللجنة تتكون من شخصيات قريبة من دوائر السلطة في مصر، سبق ان مارست العمل من خلال حقائب وزارية او مناصب قضائية رسمية، الامر الذي دفع كثيرين الى التشكيك في حيادية اعمالها. ولعل اهم المفارقات التي تغزز مثل هذه الشكوك عدم موافقة لجنة الاحزاب منذ انشائها على كل الطلبات التي قُدمت اليها بغية الحصول على ترخيص لممارسة العمل السياسي العلني!! فكانت المرجعية في تكوين الاحزاب القائمة فعلاً اما قراراً رئاسياً من السادات بتكوين المنابر قبل تحولها إلى أحزاب كاملة، مثل حزب "مصر العربي" سابقاً "الوطني الديموقواطي" حالياً، و"الاحرار"، و"التجمع"، و"العمل"، واما حكماً قضائياً على النحو الذي جرى عند قيام احزاب "الوفد" و"الناصري" و"الامة" و"الخضر" و"العدالة الاجتماعية". وكان قرار لجنة الاحزاب حظر قيام حزب "الوسط" هو الثاني من نوعه خلال العامين الاخيرين، فقد سبق أن أصدرت اللجنة نفسها قراراً مماثلاً ازاء طلب اول سبق ان تقدم به المهندس ابو العلا ماضي وكيل المؤسسين، فلجأ الى القضاء، غير انه أخفق في الحصول على حكم لمصلحته. وعلى رغم أن الحاجة تبدو ملحة لوجود مثل حزب "الوسط" الذي يعبر عن رغبة قطاعات من الاسلاميين المستقلين، ومعهم غيرهم من ثقافات وسطية مختلفة، وما يمكن ان يحققه من توازن في العلاقة بين الحركات الإسلامية التي ترفض العمل الحزبي والمجتمع وكينونته، إلا أن قرار لجنة الاحزاب جاء مخيباً للآمال ومؤكداً استراتيجية الحكم في ضرورة حجب قوى سياسية بعينها عن العمل السياسي المشروع وإبقائها تحت مقاصل السلطة تعاني مأزق عدم المشروعية. وفي الوقت الذي حرص فيه مشروع حزب "الوسط" على تجاوز عقبة حظر قيام الاحزاب الدينية بإعلانه مشروعاً سياسياً وتضمين برنامجه رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية متميزة قد نتفق او نختلف معها، الا انها تؤكد على الثوابت الدينية والقيم الاسلامية وتنطلق منها والتي قد نتفق او نختلف معها، الا ان الضوء الاحمر يستمر في إعاقة إنطلاقة القاطرة الاسلامية. إن خللاً كبيراً يبدو في طبيعة وجسم العمل الحزبي في مصر وقدرته على تحقيق تدافع شعبي او جماهيري مع القضايا الوطنية وعدم استيعابه لكل الحركات والتنظيمات المعارضة، ذلك ان النظرة المتفحصة لخريطة الاحزاب السياسية تكشف عن مفارقة ساخرة تتمثل في خلو الاحزاب القائمة من الكثافة العضوية المناسبة، فصارت احزاباً صحافية تملك اصدارات متكررة من صحف ومطبوعات مختلفة قد لا تعبر بالضرورة عن افكار الحزب ومعتقداته، بينما قوى سياسية مؤثرة جداً في الشارع السياسي محجوبة عن العمل العلني او الحزبي وممنوعة من التواصل الهادئ مع الجماهير. وبين ثنايا هذا الخلل، تتواصل ظاهرة العنف وتبقى قنابل موقوتة تحت الرماد تنفجر من حين الى آخر، حتى يتم تعديل المنظومة السياسية بشكل يسمح لكل التيارات والقوى المحجوبة عن الشرعية ان تعبر عن آرائها بطريقة سلمية. * محامٍ مصري.