نظمت "وكالة الترويج للاستثمار" في تونس FIPA بالتعاون مع "منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية" ONUDI "تظاهرة" اقتصادية يومي 10 و11 حزيران يونيو الماضي بعنوان: "ملتقى قرطاج للاستثمار"، شاركت فيها 158 شركة اجنبية تابعة للقطاع الخاص في الكثير من الدول الصناعية الكبرى في العالم. لكن الملفت في الموضوع عدم تكريس هذه التظاهرة الاستثمارية كالعادة للشركاء التقليديين الأوروبيين والتركيز في المقابل على دعوة مؤسسات من اميركا الشمالية الولاياتالمتحدة وكندا ومن آسيا الصين واليابان، التي لبّت شركاتها النداء من خلال حضور مكثف فاق التوقعات. يعتبر جذب الاستثمارات الاجنبية المباشرة رهاناً من الرهانات الأساسية لبلد مثل تونس لا يملك ثروات من النفط والغاز على غرار جارتيه، الجزائر وليبيا، لذا، ومنذ العام 1992 عمدت الحكومات المتعاقبة على تسيير شؤون البلاد باعطاء الاستثمار الخارجي اهمية متزايدة باعتباره خياراً استراتيجياً يساعد على تحسين معدلات النمو الاقتصادي لناتج الدخل القومي وخلق فرص عمل جديدة في مجتمع كانت البطالة فيه مانعاً رئيسياً لأية انطلاقة اقتصادية محتملة، بالاضافة الى مساهمته في تقليص حجم المديونية وتصحيح غالبية المؤشرات والموازين العامة. ومن اجل تحقيق هذه الاهداف مجتمعة، كان لا بد للسلطات التونسية المعنية بمجال الاستثمار ايجاد المبررات الكافية لاقناع أصحاب الرساميل الاجانب وحتى المحليين بخوض غمار تجربة من نوع جديد، لا تخلو من المخاطر في بلد لم ينفتح الاقتصاد فيه كلياً بعد على رغم وجود قطاعات واعدة عدة. ولم يكن من الممكن انجاز هذا التوجه سوى من خلال وضع اطار استثماري جذاب يتضمن قوانين ملائمة، مترافقة مع جملة من الحوافز الضريبية، اضافة الى تحسين صورة البيئة المحيطة بعمل الشركات والمؤسسات القائمة، عبر تطوير وسائل الاتصالات وتحديث البنيات التحتية الأساسية والتجهيزات العامة ورفع مستوى أداء الرأسمال البشري. ففي أقل من اربع سنوات، أي قبل نهاية العام 1996، تمكنت تونس من وضع غالبية الحوافز الاستثمارية موضع التنفيذ. وتمثلت هذه الاخيرة، على سبل المثال، في الاعفاء الشامل من الضريبة على الأرباح لمدة عشر سنوات بالنسبة للدخل العائد من التصدير والمشاريع الزراعية والأخرى المتعلقة بالتنمية الجهوية، اضافة الى حسم 50 في المئة من معدل الضريبة ابتداء من السنة الحادية عشرة. ومن جهتها، عمدت الدولة أيضاً الى تقديم مساعدات للمستثمرين في مشاريع منجزة في المناطق المصنّفة ضمن نطاق الأولويات، كما اخذت على عاتقها اكلاف التقديمات الاجتماعية في حال توظيف شبان او شابات من حملة الشهادات الجامعية. وسمحت هذه الاصلاحات والاجراءات بمضاعفة حجم الاستثمار الاجنبي المباشر في تونس فوصل، حسب الرقم الذي اعلنه محمد الغنوشي، وزير التعاون الدولي والاستثمار الخارجي في مداخلته "بملتقى قرطاج للاستثمار"، الى حدود 850 مليون دينار. ومع ذلك، وعلى رغم الثقة المتزايدة لدى المستثمرين الاجانب والنقاط الايجابية التي تعطيها المؤسسات العالمية المختصة بتقييم المخاطر من امثال "موديز"، تبقى وتيرة الاستثمارات هذه حالياً غير كافية بنظر المسؤولين التونسيين، الأمر الذي دفع الى ضرورة مضاعفة الخطوات الآيلة الى جذب المزيد من هذه الاستثمارات عبر تنظيم المزيد من المؤتمرات واللقاءات التي تأخذ بعين الاعتبار اهمية التنويع على صعيد الشراكات. بمعنى آخر، الذهاب ابعد من حدود أوروبا وشركاتها المستثمرة، وذلك على رغم وجود اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي. التطور: آفاق وحدود ناهزت الاستثمارات الخارجية المباشرة في تونس خلال السنوات الأولى 1997 - 1998 من الخطة الخمسية التاسعة للتنمية ما قيمته 1.31 بليون دينار الدولار = 1.23 دينار ففاقت التقديرات بحوالى 80 في المئة. وفي هذا السياق، تشير المعلومات الى ان قطاع الطاقة جذب بمفرده ثلث هذه الاستثمارات في حين بلغت الاستثمارات في المحفظات المالية نحو 147 مليون دينار، متجاوزة بذلك تقديرات الخطة بحوالى 50 في المئة. من جهة اخرى، يؤكد بعض المصادر ان حجم الاستثمارات جاوز ال690 مليون دينار في عدد من القطاعات الأخرى، متخطياً أيضاً التوقعات المحددة ب400 مليون دينار القيمة العائدة من تخصيص معملي اسمنت خلال العام المنصرم. باختصار وصل الحجم الاجمالي للاستثمارات الخارجية المباشرة الى 850 مليون دينار في العام 1998 في مقابل 461 مليوناً في العام 1997 أي بزيارة نسبتها 48.1 في المئة. وبلغ عدد الشركات الاجنبية العاملة في تونس 1800 من ضمنها 1100 وُجدت رسمياً بعد سنة 1987. وتفيد الدراسات التي اعدتها اللجان التابعة لمؤتمر برشلونة ان 80 في المئة من هذه الشركات هي من النوع المسمى بالمصدرة والتي خلقت حتى الآن 157 الف فرصة عمل. ويعتبر قطاع صناعة النسيج حتى الآن الأكثر استقطاباً للاستثمارات الاجنبية، علاوة على توظيفه لأكثر من 90 الف شخص. ويأتي قطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائية في المرتبة الثانية. وفي ما يتعلق بتوقعات سنة 1999، يرى الخبراء في البنك الدولي انه من المنتظر ان يتواصل تدفق الاستثمار الخارجي الى تونس بوتيرة افضل من العام 1998 نتيجة الاستفادة، من جهة، من الازمات التي ضربت عدداً من الأسواق الناشئة في العالم. ومن جهة أخرى، بسبب تحسن مناخ الاستثمار عموماً وتوفر مزايا تفاضلية اعطتها عدة منظمات دولية لهذا البلد. وتجدر الاشارة هنا للتقرير الذي اعدته الهيئة المنظمة "لملتقى دافوس الاقتصادي العالمي" حول القدرة التنافسية في افريقيا الذي احتلت فيه السوق التونسية المرتبة الثانية، كذلك، التقرير الصادر عن "مجلس المستثمرين الفرنسيين في القارة الافريقية" الذي أشار الى ان 76 في المئة من الشركات الفرنسية المتوطنة في تونس حققت أرباحاً وبأن 110 شركات جديدة تنوي الاستثمار خلال السنوات الثلاث المقبلة. تجاوز ومن المنتظر ان يتجاوز حجم الاستثمار الاجنبي خلال العام الجاري المبلغ الذي اشارت اليه ملاحق الموازنة والمقدر ب600 مليون دينار، علماً بأن توقعات الخطة الخمسية التاسعة لحظت قيمة تقديرية بحدود 505 ملايين دينار. وتعزو التقديرات الجديدة التي تشير اليها احصاءات وزارة التعاون الدولي والاستثمار الخارجي الى مواصلة برنامج التخصيص، خصوصاً ما تبقى من شركات الاسمنت وأكثر من 30 شركة اخرى موزعة على باقي القطاعات، كذلك التوقيع على عقد انجاز مشروع "محطة كهرباء رادس" من قبل مجموعة اميركية - يابانية بلغ حجم الاستثمار فيه نحو 350 مليون دينار خلال الفترة الاخيرة. ويلعب برنامج تأهيل المؤسسات الصناعية في تونس دوراً مهماً في خلق فرص شراكة مع المؤسسات الأوروبية، ويتعلق الأمر ب33 مشروعاً في طور الانجاز باستثمارات تقدر ب422 مليون دينار و29 مشروعاً آخر في طور الدراسة باستثمارات تقدر ب240 مليون دينار. وبالنسبة لتطور نوايا الاستثمارات الاجنبية والمشتركة المصرح بها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1999 وبلغت هذه 183 مليون دينار في مقابل 115 مليون في العام 1998 منها 111 مليوناً في اطار مشاريع شراكة و72 مليوناً في اطار استثمار أجنبي كلي التي يرى الخبراء ان الحجم سوف يزداد ويتجاوز التقديرات قبل نهاية العام. ويستند الخبراء في تشخيصهم الى الدور الذي تلعبه وزارة العمل من خلال البرنامج الذي عهدت به لعدد من مكاتب الاستثمارات العالمية بهدف ابراز القطاعات التي تملك قدرات تنافسية عالية والتي أثبتت الشركات التونسية كفاءة عالية نسبياً فيها. ويتعلق الأمر هنا في مجال صناعة برامج الكومبيوتر ومراكز الاتصالات، والمكونات الكهربائية والالكترونية وصناعة النسيج. وعلى رغم هذا التطور الملحوظ على مستوى تدفق الاستثمارات الاجنبية، يرى بعض مصارف الأعمال الأوروبية ان السوق التونسة لم تستفد بما فيه الكفاية من الفرص التي اتيحت لها لجذب الاستثمارات الاجنبية سيما في السنوات الأخيرة. وتشير هذه المصارف في هذا الصدد الى ضعف دينامية بورصة تونس الفتية، على رغم الجهود التي بُذلت في السنتين الاخيرتين، لاستيعاب الرساميل التي قدمت في بعض الاحيان من ليبيا والجزائر. كذلك تردد القطاع المصرفي في مواكبة عدد من المشاريع المشتركة مع مستثمرين اجانب. لكن مع ذلك، يتوقع خبراء هذه المصارف ان يشهد الفصلان الثالث والرابع من عام 1999 حركة نشطة في المجال الاستثماري، سيما في القطاع السياحي حيث يلاحظ وجود اهتمام خاص من الدول الخليجية، خصوصاً المستثمرين السعوديين. من ناحية اخرى، من المتوقع ان يلعب افتتاح مكتب دائم ل"منظمة الأممالمتحدة للتعاون الصناعي" في تونس، دوراً في تعزيز الاستثمارات الواردة من اميركا الشمالية وآسيا. تنوع الشركاء والقيمة المضافة ضمن هذا التصور نفسه، وبفضل تطبيق سياسة تشجيعية للتصدير وخوض تجربة التصنيع الموازي لحساب الشركات العالمية والحصول على بعض الاعفاءات الجمركية لدى دخول اسواق دول الاتحاد الأوروبي، يمكن للصادرات التونسية من الالكترونيات ان تشهد قفزة نوعية في السنوات اللاحقة. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان صناعة المكونات الالكترونية قد تطورت بشكل ملفت، محققة حجم مبيعات زاد على 940 مليون فرنك فرنسي حتى حزيران 1999، مما يعطي فكرة اوضح عن القيمة المضافة المستخرجة من هذه الصادرات. وتشير الاحصاءات أيضاً الى ان اكثر من 40 شركة اجنبية ومختلطة تابعة لهذا القطاع بنت مصانعها في تونس وتمثل استثماراً يزيد على 173 مليون فرنك فرنسي وتوظف اكثر من 5200 شخص. ويأتي الألمان في طليعة المستثمرين في هذا القطاع 70 في المئة يليهم بعيداً جداً الفرنسيون 14 في المئة. وتتوقع الحكومة التونسية ان يتغير هذا المشهد ابتداء من العام 2000، اي بعد دخول الشركات اليابانية والأميركية والكورية الجنوبية والكندية على الخط خصوصاً انها اصبحت شبه جاهزة لأخذ مكانها في هذا القطاع الحيوي. كما يتوقع، حسب المعلومات التي تواترت خلال "ملتقى قرطاج الاستثماري"، ان يلعب فرع مصرف "سيتي - بنك" الاميركي، الموجود في تونس دوراً محورياً في تعزيز وجود الشركات الاميركية والكندية ومساعدتها على المنافسة. ولم تعد الحكومة التونسية تخفي ان الهدف الرئيسي على صعيد الاستثمارات الخارجية يكمن في تنويع مصادر الرساميل، وعبرت عنه بوضوح من خلال مداخلات مسؤوليها في الملتقى المذكور والتركيز على نوعية وهوية المدعوين اليه. وإذا كانت الشركات الأوروبية لا تزال تحتل الصدارة فإن المستثمرين العرب سجلوا تقدماً ظاهراً في السنوات الأخيرة فزاد حجم استثماراتهم على 3.5 بليون دينار. ويأتي السعوديون في الطليعة، يليهم الكويتيون. ويبذل المستثمرون الليبيون منذ حوالى سنتين جهداً استثنائياً لتعزيز حضورهم في السوق التونسية ودخول قطاعات واعدة كصناعة الأدوية والمركبات الكهربائية. ويؤكد بعض المصادر الليبية التابعة لوزارة الصناعة ان نحو 40 مشروعاً استثمارياً اتفق على انجازه في السنوات الثلاث المقبلة بين البلدين. ويتابع المراقبون الأوروبيون عن كثب قدوم المستثمرين الاميركيين الى تونس. ويتخوف هؤلاء من ان يكون "الهجوم الاستثماري القادم" جزءاً لا يتجزأ من مقومات مشروع الشراكة الاميركية المغاربية الذي بدأ يأخذ شكلاً جدياً. وتفيد المعلومات ان 34 مشروعاً وضع على "السكة". كما تم مؤخراً افتتاح مصنعين في الضاحية التونسية لشركتي "اير برودكس" و"يونايتد تكنولوجيز". ومن المؤكد بأن هذين المصنعين سوف يساهمان في تحويل التكنولوجيا الاميركية في مجال صناعة الغاز. ويحتل المستثمرون الاميركيون اليوم المرتبة الرابعة بعد الفرنسيين والايطاليين والألمان، لكن الخبراء يتوقعون ان يتضاعف حجم الاستثمارات الاميركية خصوصاً بعد الزيارات المتكررة التي تقوم بها وفود تجارية واقتصادية اميركية منذ بداية هذا العام والتي سوف تترجم مالياً ابتداء من العام المقبل. * اقتصادي لبناني.