ينتمي روبرت بنسكي، الذي أُعلِن أخيراً أميراً لشعراء إميركا للمرة الثالثة، الى قافلة من الشعراء - النقاد تبتدىء بالرومانطيقي كولريدج، مروراً بماثيو ارنولد، ووصولاً الى ت.أس.إليوت. ولغته الشعرية التي راعت مصطلحات عصرها، تتجاوز الصيغ المحددة لعصر ما. فشعره شفّاف وتأملي في آن، وهو يستحضر البسيط والمتخيّل في بساطة جليلة، بل عفيفة. انشغل بنسك بعمليتي إبداع الشعر وتحليله، ففي شعره ونقده ثمة وحدة ثابتة، من عناصرها الأساسية طموح يشارف مفازات الأخلاقي، وسلامة العقل، فضلاً عن حس دعابي. ولد بنسكي في بلدة "لونغ برانش" الساحلية في ولاية نيوجرسي، والده يعمل كاختصاصي في النظارات. أجداده الأربعة هاجروا من أوروبا الشرقية. وقد تركت بيئة "لونغ برانش" تأثيراً عميقاً على شعر بنسكي. فالعيش قرب المحيط، حسب الشاعر، يحث المخيلة على الاندفاع في "اتجاهات متعددة وإيغالية". وبنسكي الذي حصل لاحقاً على الدكتوراه طُرِد مرات من المدرسة خلال سنوات مراهقته لانقطاعه عن الصفوف. عزف في شبابه على الساكسوفون، وحلم بأن يصبح عازفاً محترفاً ومؤلفاً لموسيقى الجاز. ولا شك أن عزف الموسيقى عبّر عن جوع لديه للحرية والفن، وسيعكس لاحقاً اهتمامه النسبي بالأوزان وبموسيقى الشعر. أول عمل نشره بنسكي لم يكن شعراً، بل أطروحته عن ولتر سافدج لاندور شاعر رومانطيقي من القرن التاسع عشر، وصدرت تحت عنوان "شعر لاندور" 1968. في ذلك العمل بدأ بنسكي بوضع الخطوط الرئيسة لعمارة معتقداته النقدية. وقد عمد لاحقاً في كتابيه النقديين الآخرين المهمين "واقع الشعر" و"الشعر والعالم" الى القاء مزيد من الضوء على هذه الأفكار. مجمل نظريات بنسكي النقدية تعود في جذورها الى قراءته وتحليله لشعر لاندور. اشتغل بنسكي على مقولة أن كل الشعر العظيم الكلاسيكي والحديث أو المعاصر يتمتع بثلاث مزايا: التعبير عن المشاعر الكونية العامة الحب والموت، على سبيل المثال، استخدام التاريخ، واستعمال الميثولوجيا، ليس كمجرد زخرف بل كنموذج أصيل أو رمز عالمي. في عمله النقدي الثاني "واقع الشعر" بدأ بنسكي بتنقية وتوضيح فكره النقدي، مما ساهم من دون شك في تطوير أدائه الشعري. مع هذا العمل النقدي بدأ بنسكي ينحو صوب تعابير وصيغ توحي بالمسؤولية الاجتماعية للشعر، وبضرورة وجود شعر مفهوم انسانياً، يحكي عن أفكار وأناس حقيقيين. لا تنطوي هذه النظرية على جنوح نحو التبسيط أو الشعر التوجيهي، بل يصر بنسكي على أن يكون الشاغل الإنساني هو مركز اهتمام الشعر، وأن العلاقات، والذاكرة، والتجربة الشخصية هي محك هذا النوع من الشعر. يرى أن الكثير من الشعر الحديث ينطوي على الادعاء، وعلى خلق موقف بارد أو محايد. وهذا النوع هو الذي يخرج من مشاغل وبرامج ما يسمى بالكتابة الإبداعية، وهو شعر تحت الطلب يعتمد على تأثيرات السوريالية مثلاً من دون أن ينطوي على تعابير مهمة. ولذا، وضمن تقدير بنسكي نفسه، فإن شعراء أمثال تشارلز سيميك وماي سونسون يخفقون في هذا المجال. يريد بنسكي شعراً لا يأنف من صوغ تعابير تجريدية من واقع الحياة، شعراً وإن مال الى الاستطراد لا يتخلى عن السمة العفوية، ولا يسقط التناغم بين المحتوى الفكري وبين الصياغة الشكلية. يبدو بنسكي للوهلة الأولى وكأنه يبغي إقصاء كل الشعراء الذين لا يناسبون تعريفه المشغول عن الشعر. إلا أن الصحيح هو تميّز مشروعه بالسخاء والمدى، متماشياً الى حد كبير مع روحية شاعرين كبيرين عاشا في ولاية نيوجرسي هما ولت ويتمان ووليم كارلوس وليامز، ما يريده بنسكي في التحليل الأخير هو الشعر المنزرع بشكل متين في التجربة الإنسانية، كما يوضح في فصل له بعنوان "تقاليد الروعة": "سواء كانت القصيدة جديدة أم قديمة، يجب أن تكون قادرة على مساعدتنا، أجل مساعدتنا ولو حتى بإعطائنا مجرّد الإحساس بالراحة بأن شيئاً قد فُهِم، أو حتى شوهد بشكل جيد". الشعر، إذاً، هو الشكل المطلق للمعرفة، وتلك المعرفة، بالنسبة لبنسكي، تأتي عبر القصائد عن والده، عن ابنته وعن بلدته، وضمن هذه النظرة تغدو القصائد الشخصية مفتاح الشعر العالمي الانتماء. ولهذا السبب يتأثر بنسكي وبشكل خاص بشعر جون كيتس ووالاس ستيفنز وت.اس.إليوت وروبرت كريلي وأ.ر. أمونز وفرانك أوهارا ولويز بوغان، وبشكل أقل بشعر سيلفيا بلاث وجو آشبوري. أما الشعراء السيئون فهم أولئك الذين يظهرون علامات النفاق أو حتى التباهي بهوية شعرية لشاعر آخر. شعر هؤلاء أشبه برجع الصدى لما يتلى في قاعات تدريس الأدب الإنكليزي" ومن بين هؤلاء يورد بنسكي كلاً من روبرت لويل، تيودور روثكه، وجون باريمان، لكن كلامه هذا لا يمنعنا بالمقابل من التذكير أنه تأثر في بداياته، بل سُحِر بأعمال الشاعر والناقد الأميركي ايفور وينترز، وقال عن لقائه به على أنه "نوع من الولادة". هذا التقسيم للشعراء بين جيدين وسيئين يوجب الإشارة الى أن ما يعول عليه بنسكي في عملية التمييز بين الجودة والرداءة هو التأثير النهائي للقصيدة أكثر من التركيز على شكلها أو وزنها الشعري. ما يقوله الشاعر عن التجربة الإنسانية يهم أكثر من كيفية قوله ذلك. ويقودنا هذا التمييز بين الشعراء الى كتاب بنسكي الثالث في النقد الأدبي "العالم والشعر"، وهو ينطوي على تحليل نقدي مركّز، ومعه يصبح الهدف أو المثال المطلوب نوعاً من الكمال أو الشمولية، وهو هدف يمكن أن ينضوي تحت لوائه كل الشعراء الذين تروق لهم ذائقة بنسكي، ابتداء من كيتس ووصولاً الى كريلي. وتوضيحاً نقول، على سبيل المثال، ان اعجاب بنسكي بالشاعرة اليزابيث بيشوب يستند الى ثنائية مقاربتها الشعرية، والى قدرتها على البقاء داخل العالم وتجاوزه في آن، وكذلك فإن اعجابه بروبرت فروست ووليم كارلوس وليامز، وجون آشبوري، مردّه الى أننا نراهم في شعرهم داخل وخارج العالم اليومي المحسوس. كما أنهم يستعملون مزيجاً متناقضاً من الكلام الأنكلو - ساكسوني أو الأميركي العادي ومن الكلمات اللاتينية أو حتى الكلمات الغريبة. دواوين الهمّ الإنساني القصيدة الأولى من ديوان بنسكي الأول "الحزن والسعادة" تشكّل ما يشبه المثال التوضيحي لرغبته في الالتزام بشعر إنساني التوجّه، وتثبت أن بنسكي واحد من أندر النقاد كونه يمارس ما "يعظ" الآخرين به. تلك القصيدة الأولى التي تحمل عنواناً له مدلوله، "قصيدة عن الناس"، وهي تقدّم للقارىء ما يشبه القائمة بأنماط الأميركيين العاديين من مثل السيدات العجائز، اللواتي يتبضعن من سوبر ماركت الحي حاجاتهن الأسبوعية، وكذلك العمال الشبان في ملابس العمل... هذه القصيدة تقول جهاراً بالحاجة الى المودة والتعاطف في كل ما يأتيه الإنسان فمن دون تعاطف تغدو الحياة غير محتملة. ولا يمكن لإنسانية الشخص أن تتحقق إلا من خلال قدرته على التعاطف والحب أثناء سعيه لملء المساحات المعتمة المحيطة به. توحد القصيدة حتى بين الحالات المتناقضة للبشرية من مثل النازيين واليهود، وهذا يفسر أيضاً لماذا شخص يهودي كبنسكي يود أن يشعر "كما يسوع". أما القصيدة الأخيرة من الديوان والمعنونة مجازاً "مقالة عن أطباء النفس" فتتناول الدور الذي يلعبه العلاج النفسي في العالم الحديث، وكذلك تاريخ الجنون، ودور المنطق. هكذا يقدم الشاعر أصدق ملاحظاته عن حياته كشاعر مستكشفاً جذور كينونته، مقدّماً شعراً يمكن أن يكون تجريدياً وشخصياً، عقلانياً وعاطفياً في الوقت نفسه. في ديوانه الثاني "تفسير أميركا"، يخاطب بنسكي ابنته متخذاً منها نقطة محورية لتأملاته في الثقافة والتاريخ الاجتماعي الأميركي. يكتب بنسكي بشغف عن ابنته، عن عاداتها وخصوصياتها. هي لا تحب أداء دور الأم أو الأميرة، بل دور الفتاة المناكفة أو حتى دور المهرج أو التنّين. وبنسكي يحب هذه الابنة لأن عينيها المحدقتين مليئتان "بالحرية والاستقلال". وفي القسم الثاني من الديوان يرى بنسكي، تقريباً كما فعل ولت ويتمان وكارل سندبرغ من قبل، الى البراري ومستوطنيها ضمن تعابير ملحمية، محاولاً أن يؤسس انطلاقاً من أحداث معيّنة، ميثولوجيا لعمال أميركا والمهاجرين اليها. ويختم بنسكي ديوانه وتأملاته الشعرية باستيحاء فروست، ويقول أن أميركا "شاسعة، ومتكسرة في شكل غريب". في ديوانه الثالث "تاريخ قلبي" يترك بنسكي الأسلوب "الرسائلي" والموضوع الملحمي، ليعود الى "الليريكية" الحميمة. في سعيه هذا يطلق موقفاً اعترافياً الى حد معيّن، لكنه لا يتخلى عن المزاج الأخلاقي والاجتماعي للديوان السابق. يكتب بنسكي في "تاريخ قلبي" عن زيارة الى أحد معسكرات الاعتقال النازية في أوروبا الشرقية، عن جيران الطفولة، عن مراهقته، وعن أمه. وقد رأى البعض أنه إذا كان "تفسير أميركا" هو ديوان الجغرافيا المتخيلة، فإن "تاريخ قلبي" مثابة ديوان الاقتصاد السيكولوجي. على كل حال، فإن "اقتصاد" الرغبة، يشكّل جوهر الموضوع في كل دواوينه - ولذا يُطلق على بنسكي لقب التقليدي العميق. في الديوان الرابع "عَظْم العَوز"، الذي نُشِر مع مناهزة الشاعر الخمسين، يبرز اهتمام بنسكي بالمعضلات الأخلاقية للعصر مع تجلي مهارة الشاعر في الموازنة بين الابتكار الأصيل والشكل. ويوحي الديوان بأن التحدي الذي واجهه النبي التوراتي دانيال يصلح لأن يكون رمزاً للتحدي الذي يواجهه الشعراء في القرن العشرين. ولعلّ قصيدة "عظم العوز" التي حملها الديوان عنواناً عمل فني سخي - وان كان معقداً - جذاباً ولماحاً. قصيدة تضغط في ستة عشر بيتاً كل تاريخ الرغبة الإنسانية - وربما تاريخ الحياة ذاتها - في تتابع باهر لصور مبتكرة ومذهلة. ويتميز الديوان بتركيز الشاعر على سمة التوازن، ووضوح اللغة والصور ودقة الكلمة المنتقاة، ودقة الأفكار أيضاً. وأهمية هذا الديوان في أنه، كبقية دواوين بنسكي، عمل إنساني الاهتمام، ليس فقط لأنه نتاج فنان انساني النزعة، بل لأن معناه انساني بشكل أساسي، ولأنه احتفاء بالرغبة أو الحاجة الإنسانية، واستحضار لكل حاجة لن تتحقق. قد يتهم البعض شعر بنسكي بالسهولة واللمعان، وحتى بالسذاجة الأخلاقية، أو بالجمالية المفرطة في عصر صعب ومعقد، لكن الصحيح أن اهتماماته الأخلاقية وحكمته تغوص عميقاً، كما أن النبرات الهادئة لقصائده ليست سوى إهاب رقيق فوق الجحيم الذي رآه بنسكي بعين قلبه وعقله. قصيدة من جديد بنسكي الى التلفزيون لستَ "نافذة على العالم" ولكن كما ندعوكَ، علبة، أنبوب هو مَرْبى للأحلام والعجائب صندوقة أطياف، رقصة تحت الطلب من الفوسفور أو الكريستال البرّاق يا الأعجوبة المنزلية، يا حوض الإذعان، يا شريان التحدي راعيك في الهيكل هو هرمس يا الرقص المندفع، الرقص السريع، أيها اللص الصغير، رفيق المحتضر وسلوى المريض، الى توهجكَ الأزرق جلس والدي وشقيقتي متضامّين على كرسي واحد يشاهدانك فيما الزوجة، أم الفتاة، كانت مريضة الرأس فكرهتُكَ وكرهتهما والآن أحبك رفيقي وأنا داخل غرفة فندق، دقائق قبل أن أواجه الجمهور: خلف أبواب الخزانة، ثمة علبة داخل علبة - طوم وجيري، أو ثمة أيضاً براقة ومطمئنة أوبراه وينفري شكراً لك، لأنني شاهدتُ وشاهدتُ سيد سيزار يتكلم الفرنسية واليابانية ليس لإلمامه بهما ولكن عبر المخيلة، يا لسلاسته، وشكراً لك، شاهدتُ عبر بث مباشر جاكي روبنسون1 يستأثر باهتمام الأمّة كلّها. المنزل، الصورة الوافدة - يا للصَدَفة المعلقة بخيط - الراسخة والأسرع من الضوء مثل تلك الكلمات التي نذكرها في قولنا: هي أيضاً لها أجنحة عند الخوذة والكاحل 1 لاعب بيسبول وروكبي.