لا أحد يعرف على وجه التحديد والقطع، اسم العبقري الذي اخترع فكرة النقود، وحرص اتباعه بعده على أن تذهب أغلبية النقود الى أيدي القلة، وتذهب أقلية النقود الى أيدي الأغلبية.. وبذلك تضطرب أحوال الناس جميعاً سواء كانوا أقلية أم أغلبية.. كل ما نعرفه أن ظهور النقود صاحب ظهور الحضارات واستقرار البشرية.. قديماً.. في عصر الصيد كان الرجل يخرج من كهفه وفي يده سلاحه الحجري ليواجه الثور الوحشي بقرونه المشرعة.. كان الصراع بينهما ينتهي بموت الثور أو موت الصياد، المهم أن أحدهما كان يعود إلى كهفه وقد ضمن عشاءه. وفي هذه المرحلة.. لم يكن هناك دور حقيقي للنقود. ثم انتقلت البشرية الى عصر الزراعة.. حيث يستقر الفلاح على أرض يزرعها ويكابد فيها تقلبات الطقس وآفات الزراعة.. وفي هذا العصر ظهرت المقايضة.. بعد ظهورها بفترة ظهرت فكرة النقود.. وفي نظام المقايضة كان الراعي مثلاً يقدم الصوف للفلاح، مقابل القمح الذي يزرعه الفلاح ويعيش عليه الراعي. ... .... ... ... ثم اكتشفت البشرية الذهب والفضة.. وصار هذان المعدنان هما بداية النقود.. صارا معياراً للقيمة وأصبح كل شيء يقاس بهما، وساعد على المركز الممتاز الذي احتله الذهب والفضة انهما يملكان خاصية الندرة، والقدرة على الصمود لتقلبات الزمن.. ان الذهب يحتاج إلى ثمانية آلاف عام ليبلى.. .. .. .. .. كان اكتشاف النقود نقطة تحول في تاريخ البشرية.. نعلم ان الصراع هو قدر الانسان، وقد اختارالانسان ان تدور أعظم صراعاته حول النقود.. ان في النقود سحراً لا يقاوم.. يقول المثل العامي الغربي عن النقود إنها تتكلم.. ورغم أن أحداً لم يسمع النقود وهي تتكلم، إلا أن هناك اتفاقاً ضمنياً على أنها تتكلم. إن النفوذ التي توفره النقود لأصحابها يغني عن كلامها، إنها تقول دون أن تقول.. إنها تسدل على الوجه القبيح ستاراً من الجمال، وتخلع على الجاهل علماً ليس له، وهي تخفي العيوب، وتمنح صاحبها حكمة ليست من بنات أفكاره.. باختصار.. يمكن القول إنها فتنة.. هي الفتنة الكبرى للنوع الانساني في معظمه.. تأمل الحروب والصراعات بين الشعوب.. تأمل القضايا المعروضة أمام المحاكم في الدنيا.. تأمل مواضيع السينما والتلفزيون في المسرح.. ستجد أن الموضوع الرئيسي في هذا كله هو النقود.. أو الصراع على النقود. إن المرء يستطيع أن يشتري الولاء بالنقود، ويستطيع شراء النفوذ والسلطات بالنقود، ويستطيع شراء السلع والراحة والمتعة بالنقود.. ولكنه لا يستطيع شراء الصحة أو الحب أو السعادة بالنقود.. ما هي الخاصية التي توفرها النقود لصاحبها..؟ إنها الحرية.. في فيلم كوميدي عن سرقة النقود، تفلح بطلة الفيلم في سرقة ملايين عدة وتقول لصاحبها يوماً: - تصور حريتنا ومعنا كل هذه الملايين من الدولارات، نستطيع ان نفعل أي شيء.. نسافر الى أي مكان.. نستمتع بالترف.. نسيح في الأرض ونشاهد ما لم نشاهده.. انني أحس بحرية كاملة.. ما أجمل هذا الإحساس الذي تمنحه النقود بالحرية.. ويتأمل الرجل في كلام المرأة ويقول لها: انت تتصورين ان النقود هي الحرية.. ولكنني اختلف معك في الرأي.. إن النقود ليست حرية، وإنما هي فخ دخلناه بأقدامنا، وسنعيش بقية حياتنا ونحن نفر من مكان إلى مكان، بينما تطاردنا الشرطة في كل مكان.. .. .. .. .. رغم كل ما يقوله الحكماء عن النقود.. رغم ان المال زينة، إلا أنه نجح ان يفتن الناس الى حد عبادته، لقد عبد العجل الذهب أيام موسى رغم كل شيء، وفي عصرنا الحديث احتل الذهب والفضة مكان الاصنام القديمة المعبودة، إن الناس لا تعبد اليوم الاصنام.. باستثناء صنمين اثنين هما الذهب والفضة.. ولقد أشار النص القرآني الى فتنة النقود في سورة "القصص"، وقص علينا ما كان من أمر قارون.. وكان قارون غنياً تحتاج مفاتيح كنوزه الى رجال أشداء لحملها.. وحين نصحه قومه ان يحسن كما أحسن الله إليه، قال كلمته الشهيرة - إنما أوتيته على علم عندي.. ولقد وقع قارون بكلمته في الفخ حين تصور أن علمه وذكاءه هما المسؤولان عن ثرائه.. وأنكر بذلك زرق الله له ونسب الرزق الى نفسه.. وكان الخسف هو الرد الإلهي على مزاعمه.. ولقد تكررت قصة قارون في النهايات التعيسة لأغنياء تصوروا ان المال حرية وليس فتنة وقيداً..