منذ أن يدرك الإنسان العالم من حوله ويكتشف أن لديه رغبات وآمالا وطموحات، ثم يسعى للحصول عليها فتحول بينه وبينها العوائق والحواجز يدرك حينها نفاسة وقيمة «الحريّة» التي بدونها لا يمكنه أن يحقق أي منجز حياتي أو تكليف رباني, ولهذا جاء الإسلام بتحرير الإنسان من طغيان ورِقّ المخلوقين ومن تأمل في صراع الأنبياء مع أقوامهم أدرك ما كان عليه الناس قبل الرسل من العبودية للمخلوقين من أصنام حجرية أو أوثان بشرية وامتنان الله عليهم بالتوحيد ليخرجهم من أسر وقيود العبودية لغير الله تعالى. لقد أدركت الحضارة الغربية المعاصرة كما قرر الإسلام قبل 14 قرناً أهمية الحريّة ، ولهذا لم يكن الخلاف قط بين المفهوم الغربي والمفهوم الإسلامي للحريّة حول أهميتها ولا عن ضرورة ضبط مساراتها فكل مجتمع بشري له قوانينه وأنظمته التي تضبط مسارات الحريّة باتجاه تحقيق المبادئ والقيم التي قام عليها ذلك المجتمع, لذلك قال جان جاك روسو : (لا حريّة بلا مسؤولية)، وإنما كان الخلاف في ( المصدر ) الذي يستقي منه المجتمع ضوابط الحرية وحدودها فكان (الوحي) هو المصدر في التصور الإسلامي بخلاف المجتمع الغربي الذي بنى تصوراته بمعزل عن الوحي. لئن كان المجتمع المسلم المقتفي نور الوحي يمثّل أرقى صور التحرر من العبودية متى ما كانت قوانينه وأنظمته مطابقة لما جاء في الشرع, فإن هذا لا يعني - بأي حال - تجريد غير المسلمين من حقهم في الحرية والعيش بكرامة في ظلال الشريعة. ولقد سطّر التاريخ بأحرف من نور قصة ذلك النصراني من أقباط مصر الذي اشتكى من ابن الوالي المسلم للخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأمر بأن يقتص النصراني من ابن الوالي، وقال قولته الشهيرة : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ). لقد سبق عمر بهذه العبارة وتلك السيرة العطرة مقولات فلاسفة الثورة الفرنسية التي تُفاخر بها الحضارة الغربية اليوم بأكثر من عشرة قرون, ومازال المسلمون خصوصاً والبشرية كلها ظامئة لذلك النموذج الإسلامي الفريد الذي جمع بين العدل الحقوقي والقضائي للناس على اختلاف عقائدهم وأفكارهم، وحمل معها نور الإيمان ومشاعل الهداية للبشرية جمعاء. قبس : ما فائدة الدنيا الواسعة , إذا كان حذاؤك ضيقاً.