ايهود باراك الذي اكتسح الانتخابات الأخيرة لا يقول الكثير هذه الأيام بحجة انه منهمك بالمفاوضات لتشكيل ائتلاف حكومي موسع. وهو ان نطق ببعض الكلمات، فهي لا ترقى الى مستوى الفكرة ولا تكون تصريحاً يحمل مضموناً. واذا كانت حركاته الجسمانية تدل على ثقة وراحة، فإن تحركاته السياسية ومناوراته التفاوضية تعكس صورة سياسي متحفظ وحذر غير مستعد ان يفتتح مرحلة جديدة في اسرائيل أو ان يدشن حقبة جديدة في العلاقات الاسرائيلية - العربية، خصوصاً انه يرفض ان يدلي برأيه في قضايا مركزية يتم التفاوض عليها مع الاحزاب اليمينية والدينية، ويفتح الباب على مصراعيه لحكومة ائتلافية تضم ليكود بقيادة ارييل شارون إ ضافة الى حزب مفدال الاستيطاني المتطرف. يرفض باراك ان يخرج بتصريح واضح وصريح حول تطبيق اتفاق "واي ريفر"، أو بشأن وقف الاستيطان، أو في ما يخص قضايا الدين والدولة، اي انه، بكلمات اخرى، يرفض ان يضع أمام الاحزاب الاسرائيلية مسودة موقف من القضايا المهمة التي يتم الاتفاق الائتلاف بناء عليها. الأنكى من ذلك، ترى باراك يترك موضوعاً مهماً مثل الاستيطان ليتم الاتفاق عليه بين ميرتس اليساري ومفدال الاستيطاني، في حين يُسرِّب المقربون اليه حكمة مفادها ان باراك: مستعد للاستمرار في ما اتخذ قرار في شأنه في الاستيطان حتى اليوم وتطبيق ما تم اقراره من خطط مثلما "فعل" بنيامين نتانياهو حين وافق على احترام ما تم التوصل اليه في حكومتي اسحق رابين وشمعون بيريز. وهذا يعني ان الاستيطان يستمر ولو في غياب قرارات جديدة لتوسيع المستوطنات أو زيادتها. ويجلس باراك مع شارون الذي أتى اليه حاملاً خرائط تشير الى المناطق الحيوية التي ستهددها انسحابات "غير مسؤولة" قبل التوصل الى اتفاق على الحل النهائي. ومرة أخرى يُسرِّب مقربون من باراك رسالة جديدة مفادها ان رئيس الحكومة القادم معني أولاً وقبل كل شيء بالدخول في مفاوضات الحل النهائي للفصل بين الشعبين. وعملية "الفصل" هذه ستحول الفلسطينيين الى بنتوستانات في غياب حدود مع غير اسرائيل، وفي غياب السيادة وحضور الاستيطان. اما باراك نفسه فيرفض ان يوضح موقفه من أية قضية، كأن من المفترض ان يكون قد انتخبه الاسرائيليون بناء على موقفه المعتدل منها. وإلا فيما هو الفارق فعلاً بين السابق واللاحق؟ المتفائلون يستغربون مثل هذا الكلام وينادون باعطاء باراك مهلة لتشكيل حكومته ولتسلم مقاليد الحكم والانتهاء من الترتيبات الداخلية من التعيينات المهمة، غير مكترثين بتجربة "حرق الأصابع" سنة 96 حين طالبوا بإعطاء نتانياهو "بعض الوقت لأنه سيفاجئ". ويصر هؤلاء على ان باراك لا يبحث عن حكومة "وحدة وطنية" مع ليكود تتم فيها مشاركة مبدئية وايديولوجية والاتفاق على قاسم سياسي مشترك بين الحزبين، ولو ان قيادة ليكود ترفض ان تشترك في "حكومة موسعة" وتصر على حكومة "وحدة وطنية". ويقول هؤلاء ان باراك يعرف ما يريد ويعرف كيف يحصل عليه. وبهذا المعنى فإن مناوراته الائتلافية ليست إلا محاولة منه لتخفيض ثمن دخول الاحزاب الكبيرة - ليكود وميرتس من ناحية، وشاس وشينوي من الناحية المقابلة. وعليه فإن من المتوقع في اسوأ الحالات ان يشكل باراك حكومة مصغرة لا تشمل الحزبين الكبيرين الى ان يتم تغيير قانون الوزارات، لزيادة عددها من 18 المسموح به اليوم ربما الى 26. الأمر الذي سيسمح لاحقاً بدخول أمثال حزب شاس الى "حكومة موسعة"... وربما ليكود الذي يطح أكثر ما يطمح وزراؤه الحاليون "السابقون" الى دخول حكومة الائتلاف بحجة منع حدوث تنازلات ووقف انسحابات بضغط من اليسار. ولكن في الحقيقة يطمع هؤلاء بالحقائب الوزارية اليوم قبل الغد لتقوية مواقعهم الانتخابية داخل حزب ليكود قبل انتخاباته الداخلية لتشكيل قيادة جديدة. وإذا كان باراك يدرك هشاشة موقف لىكود وحساسيته بعد الفشل الكبير في الانتخابات، ويعرف جيداً أهمية الحقائب الوزارية لحزب شاس، فإنه سيترك الباب مفتوحاً لكي يزحفوا اليه. لا نعرف بعد ان كانت استراتيجية باراك هذه حقيقية أو انها ستنجح، ولكن مما لا شك فيه ان هذا التحليل يقودنا الى استناج يقول ان العقبة امام الانسحابات وتطبيق الاتفاقات لن تكون في نهاية المطاف ائتلافية بل باراكية بحتة. فإما ان باراك يفاوض ليكود على السياسة المقبلة وعلى الحد الاقصى ل"التنازلات" لكي يسلمهم الحقائب الوزارية، أو انه يفاوضهم على عدد ونوعية الوزارات التي تحق لهم، لكي يبتز منهم مواقف أكثر براغماتية في السياسة العامة لحكومته. وفي الحالتين ليس الفلسطينيون طرفاً في هذه المفاوضات. وعليه، لا بد ان يستعدوا لسماع مواقف مبلورة ومطبوخة محلياً ومنسقة مع واشنطن.