شوارع موسكو مليئة بصور الرجل الاسمر النحيل ذي الشعر المجعد الذي ينم عن انتمائه الى عنصر ليس سلافياً، الا انه غدا رمزاً لروسيا وواحداً من المقومات القليلة لوحدتها، رغم انه من اصل اريتري. انه الشاعر الكسندر بوشكين الذي اصبح بديلاً من الرئيس بوريس يلتسن كصانع للاخبار عشية الاحتفال بالذكرى المئتين لميلاده مطلع شهر حزيران يونيو. ويحضر الاحتفالات احفاد احفاد بوشكين البالغ عددهم 218 شخصاً، وتقيم غالبيتهم خارج روسيا. وينتمي العديدون منهم الى اجناس وطبقات وفئات شتى بينها عائلة "ليو" الصينية المقيمة في هاواي، وآل وندسور في بريطانيا، وحتى سلالة آل رومانوف القيصرية. فرغم نفور القيصر نيكولاي الأول من بوشكين الذي رفض ان يصبح شاعراً للبلاط، عقدت زيجات بين احفاد الرجلين. وليس في سلالة بوشكين شاعر واحد اذ ان الجد كان حذّر اخلافه من ان احداً منهم لن يتمكن من بلوغ ذراه. لكن صيت الشاعر ذاع في كل مكان وترجمت مؤلفاته الى لغات عدة وأطلق اسمه على مدن وشوارع بينها شارع في حي مار الياس في بيروت. وقررت بلدية مدينة سارانسك في حوض الفولغا اقامة تمثال لبوشكين على منصة اصبحت خالية بعدما رفع منها تمثال لينين. الا ان النقاد والباحثين اعربوا عن استيائهم لاستغلال اليوبيل لأغراض نفعية صرفة واطلاق اسم بوشكين على انواع من الفودكا، رغم ان الشاعر لم يقرب هذا الشراب الروسي بل كان يؤثر انواعاً اخرى، كما ان اسم بوشكين وضع على علب كبريت لم يكن لها وجود في عصره. وفي روسيا رمزان يمكن ان يوحدا الشعب، الأول هو الانتصار على المانيا في الحرب العالمية الثانية والثاني... بوشكين. فالليبراليون يقدرون في الشاعر دعوته الى الحرية واستنكاره للطغيان. والقوميون يعتزون بمواقفه الداعية الى وحدة روسيا وتعزيز مكانتها. والشيوعيون يمتدحون تعاطفه مع ثورة الديسمبريين ضد القيصرية ودفاعه عن الفلاحين الاقنان. واتباع التيار الاوروآسيوي يرون فيه رمزاً لدعوتهم الى التآخي بين مختلف الاجناس وتعلقه بالشرق والغرب معاً. وإضافة الى عبقريته الادبية فإن هالة من القدسية احاطت به خصوصاً انه قتل في مبارزة مع المغامر الفرنسي دانتس، دفاعاً عن شرفه. ويعد بوشكين واضع اسس علمية للغة الروسية المعاصرة وتطويعه اللغة القديمة لتكون صالحة للأدب والكلام على حد سواء. وقد يكون ثمة تماثل في هذا المجال بين الاديب الروسي والروائي العربي نجيب محفوظ. واشعار بوشكين متقنة الشكل، رغم عمق معانيها، ما يجعلها يسيرة للحفظ، بل ان الكثير من أبياته صار اقوالاً شائعة. ويعتبر الروس بوشكين مضاهياً لشكسبير في الادب المسرحي خصوصاً في رائعته الشهيرة "بوريس غودونوف". وقد خرج بوشكين عن الكثير من "البحور" الشعرية المتجمدة وابتدع اوزاناً جديدة ما برحت معتمدة حتى اليوم. وغدا أول شاعر روسي يحترف الادب ويكسب من بيع مؤلفاته الى جانب انه اصدر أول مجلة ادبية في روسيا لا تزال تصدر حتى اليوم. من نبلاء روسيا... واريتريا كان بوشكين يفتخر بانتمائه الى سلالة نبلاء من روسيا... واريتريا. فجدّه لأمه، ابراهيم، كان من عائلة مسلمة عريقة ونقل الى الاستانة كرهينة في مطلع القرن الثامن عشر. وأعجب السفير الروسي لدى الباب العالي بذكاء الشاب الأسمر فنقله الى سان بطرسبورغ حيث صار في خدمة البلاط بعدما اطلق عليه القيصر بطرس الأول اسم "ابراهام هنيبعل"، وأرسل للدراسة في مؤسسة للهندسة العسكرية في فرنسا ثم عاد ليتقلد مناصب بارزة. ومن هنا اهتمام بوشكين الشديد بالشرق والاسلام، ووضعه قصائد مستوحاة من معاني القرآن الكريم، ودراسته تاريخ القوقاز والقرم ابّان الحكم الاسلامي.