الكسندر بوشكين هو، من دون منازع، أكبر الشعراء الروس في بدايات القرن التاسع عشر. وهو بالتأكيد المجدّد الأكبر في الأدب الروسي، بل ثمة من يقول انه مؤسّس هذا الأدب الذي من الصعب أن يكون له وجود جدي من قبله. وألكسندر بوشكين اشتهر بأعمال كبيرة اقتبست منها أعمال أوبرالية درامية لا تزال حية حتى يومنا هذا، وفي مقدمها «بوريس غودونوف» و «أوجين أونيغين»... كما ان من أبرز أعماله ذلك النص التاريخي/ التراجيدي الرائع الذي انطلاقاً منه ارتسمت الى الأبد أسطورية الحكاية التنافسية بين موتسارت وسالييري موصلة الى فرضية مسؤولية هذا الأخير عن الموت الغامض المبكر لصاحب «دون جوان». وإضافة الى هذا كله يمكن القول ايضاً ان ألكسندر بوشكين يكاد يكون أول كاتبي النثر الكبار في تاريخ الأدب الروسي، ولا سيما عبر أعمال روائية مثل «بنت الكبة» التي خاضت، باكراً، في سيكولوجية المقامر، وانبنى انطلاقاً منها أدب كبير أوصله دوستويفسكي الى ذراه. إذاً، على رغم ان الكسندر بوشكين لم يعش سوى 38 عاماً انتهت بموته في مبارزة، تشبه تلك المبارزات التي وصفها كثيراً في كتاباته، كانت كتاباته غزيرة وقلّ من بين أعماله ما لم تكن له قيمة تاريخية وإبداعية حقيقية. ومن بين هذه الأعمال رواية له، تبدو شديدة الارتباط بسيرة حياته، وكان هو، حتى من قبل كتابتها يعتبرها عملاً عزيزاً على فؤاده... وهذه الرواية هي «ابنة الضابط» التي أنجزها بوشكين ونشرها في عام 1836 أي قبل رحيله عن عالمنا بعام واحد. ومن يقرأ هذه الرواية على ضوء رحيل بوشكين المفجع، لن يصعب عليه، بالطبع، تلمّس الدوافع التي جعلت بوشكين يحس ارتباطه العميق بها. تعتبر «ابنة الضابط» (أو «ابنة النقيب» في شكل أكثر حرفية) واحدة من أكثر روايات بوشكين بساطة وواقعية، وهو صاغها استناداً الى حكاية حقيقية اكتشفها فيما كان يقلب الوثائق والتواريخ لكتابة «تاريخ ثورة بوغاتشيف». أما الموضوع الذي يشكل محور الرواية فيتحدث عن الضابط الشاب والنبيل غرينيوف الذي يتوجه، تبعاً لرغبة أبيه، للانضمام الى الجيش الروسي الذي يقاتل ثورة المتمرد بوغاتشيف. وهناك، في الحصن الذي يتجمع فيه المقاتلون يغرم غرينيوف بماريا ايفانوفا، ابنة قائد الحصن الذي سيتمكن بوغاتشيف من إلحاق الهزيمة به واحتلال حصنه. أما ماريا ايفانوفا فإنها، من خلال مغامرات عدة تقوم بها مع حبيبها الضابط الشاب، تجد نفسها وتجده في نهاية الأمر في حضرة قائد التمرد وأركان حربه... وهم مجموعة من الأشداء المتوحشين الذين لا يوحون للعاشقين بأية طمأنينة. وهنا عند هذا الحد، يخلط بوشكين بين التاريخ الحقيقي والأحداث الروائية المتخيلة، من دون أن يعني هذا الخلط ان كاتبنا يرجّح كفة طرف على كفة الطرف الآخر: فلا هو يضع النص الروائي في خدمة التاريخ، ولا هو يجعل من التاريخ مجرد مطية لخدمة أغراضه الروائية. بوشكين يجمع العنصرين في بوتقة واحدة، مدركاً ومؤكداً منذ البداية ان كل همّه انما هو تقديم عمل جيد لا تغيب عنه الحقيقة التاريخية، ولا تغريه المشاهد المتخيلة عن موضوعه. وفي هذا الاطار يبدو من الأمور ذات الدلالة قول بوشكين عن هذا العمل: «أنا لم أرغب له ان يكون مجرد سرد تاريخي لحصار اورنبورغ... فهذا الحصار في تفاصيله وتاريخيته ينتمي الى علم التاريخ، لا الى الحكايات والمدونات العائلية». ومن هنا، واضح في هذا النص ان الشاعر الروسي الكبير انما يهتم بسلوك الأشخاص وتصرفاتهم أكثر بكثير مما يهتم بسماتهم السيكولوجية المتحدرة مباشرة من الأحداث التاريخية في رد فعل عليها. وفي هذا الاطار لم ينف بوشكين أبداً ان مرجعيته الفنية انما كان السير والتر سكوت، رائد الكتابة الروائية التاريخية. ويذكر دارسو أعمال بوشكين أن هذا الأخير انما استعار من والتر سكوت هنا شخصية البطل الوسط، الذي يجد نفسه، من دون أن يرغب أصلاً في ذلك، وسط معمعة أحداث تاريخية، تؤدي به الى أن يصبح واحداً من الرجال الكبار. ويضيف هؤلاء الدارسون انه كما يحدث في واحدة من روايات والتر سكوت أن يجد بطله كوينتن دوروارد نفسه في حضرة لويس الحادي عشر، ما يباغته ويضخم على الفور من شخصيته، ها هو غرينيوف، وقد تزيا بزي المتشردين يجد نفسه فجأة في حضرة المتمرد بوغاتشيف. وها هي حبيبته ماريا تلتقي - وأيضاً في شكل مباغت - بسيدة حسناء تجدها تتمشى في متنزه لتكتشف من فورها انها الامبراطورة كاترين الثانية. وفي هذا الاطار لفت كثر من الباحثين الى أن نهاية «ابنة الضابط» تشبه، الى حد بعيد، نهاية رواية «روب روي» لوالتر سكوت نفسه. ان الكسندر بوشكين، وعلى غير ما كان متوقعاً منه، لا يهتم هنا أيما اهتمام بتحليل الأسباب والدوافع التي جعلت بوغاتشيف يقوم بثورته التي انتصرت. بل هو يكتفي بأن يصوره لنا كناقم يثأر لكل ضروب الاحباط التي يعاني منها الفقراء والمستضعفون. بل ان بوشكين لا يتوانى، وفق تعبير الناقد جيرار فندت، عن أن يجعل من هذا «المتسلط ذي الكاريزما المؤكدة»، والذي سيعلن نفسه قيصراً جديداً للروس تحت اسم بطرس الثالث، مجرد همجي دموي، انما قادر في الوقت نفسه على أن يتسم بأرفع السمات الانسانية. وفي الأحوال كافة، من الواضح لمن يقرأ هذه الرواية المسلية في نهاية الأمر، أن الكسندر بوشكين ليس مناصراً متحمساً للقضية الثورية. وهو يعبر عن هذا، طواعية، إذ نجده يقول على لسان بطله الضابط الشاب غرينيوف موجهاً حديثه الى شخص آخر: «أيها الفتى، إذا ما حدث لأوراق ذكرياتي هذه ان وقعت بين يديك، تذكّر جيداً، ان أفضل ضروب التغيير وأشدها صلابة، انما هي تلك التي تولد من إحداث تبديل في العادات والأخلاقيات لا يواكبه أي نوع من أنواع العنف». بيد أن هذا القول لن يمنع الضابط الشاب غرينيوف من أن يحس ذات لحظة بتواطؤ واضح مع المتمرد، هو الذي كان من مهامه الأساسية أن يدافع عن مصالح القيصر الذي انتفض المتمرد بوغاتشيف للقضاء على حكمه والحلول محله... بل ان غرينيوف لم يكتف تجاه المتمرد بتواطؤ قد يبرره وضعه... انما تجاوز ذلك ليشعر تجاهه بقدر كبير من التعاطف... وهو ما يمكن في الوقت نفسه ان يترجم منطقياً بكونه موقف الكاتب بوشكين أيضاً. عاش الكسندر بوشكين بين العام 1799 و1837 أي خلال تلك الفترة التنويرية الحقيقية في التاريخ الأوروبي، والتي كان لا بد لها من أن تنعكس في نهاية الأمر على روسيا خالقة فيها موجة تنويرية ستواصل طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر رفد الحياة الروسية بضروب الابداع والفكر... وبوشكين نفسه خاض أنواعاً أدبية كثيرة كما أشرنا، وإن كان قد اشتهر خصوصاً بصفته شاعراً. أما الجانب الأقل شهرة في عمل بوشكين فكان عمله التاريخي، اذ انه وضع كتباً كثيرة عن تاريخ روسيا لم تكن رواية «ابنة الضابط» سوى استطراد لها. وكذلك يمكن أن نذكر أيضاً من أعمال بوشكين التي لم تنل حظها من الشهرة، كتابه «زنجي بطرس الأكبر» وهو كتاب يتحدث فيه بوشكين، خصوصاً، عن جد جد جده، العبد المسلم ابراهيم هانيبال، الذي اشتراه البلاط الروسي في اسطنبول، ليصبح خلال سنوات قليلة واحداً من محظيي القيصر. [email protected]