لا تخلو أي "مختارات" من الشعر الروسيّ في أيّ لغة كانت من قصيدة للشاعر بوشكين عنوانها "النبيّ" كتبها في العام 1826 وكان له من العمر سبعة وعشرون عاماً. هذه القصيدة القصيرة التي تختلف عن معظم قصائد الشاعر "القتيل" غدت منذ ذاك الحين أشبه ب"البيان" الشعريّ لا "البوشكينيّ" فحسب وإنما الروسيّ أيضاً. وليس من المصادفة أن يحملها كتاب "الشعر الروسي" الصادر في باريس على غلافه الأخير في ترجمة حرّة وموزونة الى اللغة الفرنسية أنجزتها الشاعرة الروسية الكبيرة مارينا تسفتايفا التي قضت انتحاراً في العام 1941 وهي من ورثة بوشكين شعراً وروحاً. فالقصيدة تمثل حقيقة "النظرة" أو الرؤية الروسية الى الشاعر: فهو قدّيس أعطي سرّ الكلمة لكي يكون بها وسيطاً بين الأرض والسماء، بين الإنسان والبارىء. واللغة التي هي أداة الشعر إنّما هي روحه أيضاً. إنّها الرسالة وأداة الرسالة في الحين عينه. والشاعر يتماهى في صورة النبوة الشعريّة ليُبلغ شعبه الروسيّ ما ينبغي أن يبلغه إيّاه ويكون صوته الصارخ ولكن ليس في البريّة بل في الحياة نفسها. وتستحضر القصيدة ملاكاً ساروفيمياً في المعنى المسيحي ذا أجنحة ستّة ينادي الشاعر قائلاً له أن ينهض ويحرق أو يشعل ب"الكلمة" قلوب البشر. فالشاعر بدءاً من هذا النداء سيكون ضمير الشعب بعدما كان وسيظل أيضاً ضمير ذاته. والعنوان نفسه "النبي" سوف تحمله قصيدة أخرى ولكن للشاعر ليرمنتوف وارث بوشكين بدوره كتبها في العام 1841 مستعيداً صورة النبوءة الشعرية رمزياً. إلا أنّ الشاعر الروسيّ الذي اتحد في شخص القدّيس ذي الرؤى "النبوءاتية" والشعرية سوف يُضطهد ويُهان ويُحتقر ويُطرد فلا تكتمل شخصيته إلا انطلاقاً من المقولة المسيحية الشهيرة: "لا يُقبل نبيّ في وطنه" لوقا. فها هو بوشكين نفسه يحيا حياته منفياً داخل روسيّا ثمّ يُقتل من جراء مكيدة دبّرتها السلطات القيصرية. وقدر بوشكين المأسوي سيكون قدر الكثيرين من الشعراء الروس لاحقاً: غوميليوف يُعدم بالرصاص، مندلشتام يموت في المعتقل وكذلك كليويف، فاسيلييف يُعدم أيضاً، ماياكوفسكي ينتحر، أسينين ينتحر، مارينا تسفتايفا تنتحر، أخماتوفا تُنفى وكذلك باسترناك... إنّها مأساة الشعراء الذين عاشوا مراحل التاريخ الروسي الأليم: من ظلم الأحكام القيصرية الى قسوة الأحكام الثورية المتعاقبة. إلا أن بوشكين ظلّ طوال القرنين الأخيرين شاعر روسيّا بامتياز، شاعر "الروح" الروسيّة واللغة الروسية والأمّة الروسية. وان لم يستطع الحكم القيصري أن يطفىء شعلة قلبه فأنّ الحكم البولشفي وجد فيه رمزاً ثورياً وداعية من دعاة العدل والاخاء. وكان بوشكين صديقاً للثوريين الذين سُميوا الديسمبريين ولم تلتق "الشعوب" الروسية و"الأنظمة" والتيارات مثلما التقت حول الشاعر بوشكين فإذا هو كما قال عنه غوغول "الظاهرة الخارقة بل الفريدة للروح الروسية". أما دوستويفسكي فقال عن "روسيّة" بوشكين: "ما من كاتب روسيّ، لا قبله ولا بعده، بقي متحداً بشعبه اتحاداً بلغ هذا المبلغ من العمق". على أنّ النزعة الروسية هذه لن تعني الانغلاق والشوفينية والتعصب الأعمى على الرغم من تبجيلها وتقديسها. فالكاتب الكبير دوستويفسكي سوف يمتدح انفتاح بوشكين على آداب أوروبا وصهره إيّاها في بوتقة اللغة الروسية. والانتماء الروسي الذي أقسم به بوشكين ومعظم الأدباء الروس ليس مجرّد انتماء وطني بل هو تجذّر في كينونة بشرية ذات طابع قدسيّ. فبوشكين نفسه يتحدث عن "التاريخ الروسي" الذي منحه الله للشعب الروسي مثلما تحدث لاحقاً دوستويفسكي عن مسيحية روسيا الإنسانية كانتماء روحي. الرسالة الشعرية ظل بوشكين طوال حياته وفيّاً لمبدأ الوحي الشعريّ وللرسالة الشعرية التي أئتمن عليها. وهو طالما تذكّر ربّة الشعر التي زارته مرّة في غرفته أيام كان طالباً حاملة معها "إشعاعاً غريباً" وكتب حينذاك يقول "واستنارت فجأة غرفتي". ولئن لم يسع بوشكين إلى ترسيخ نظرية ما للشعر فهو أعرب عن مبادئه الشعرية أو عن بيانه في بضع قصائد حملت عناوين مباشرة من مثل "الشاعر"، "الى الشاعر"، "الشاعر والجمهور" وسواها. وعبّرت هذه القصائد عن نظرته الى الشاعر والى صنيعه الجمالي. في قصيدة "الشاعر" التي كتبها بعدما لمس التناقض بين الشعر شعره والحياة حياته يستعيد أسطورة ابولون إله الشعر لدى الإغريق ليرثي حال الشاعر "المتخاذل" و"التاعس" بل الأتعس بين "أبناء الأرض التعساء". ف"قيثارته المباركة صامتة" ونفسه مفعمة ب"القلق والأصوات". ولكنّه في عزلته ووحشته ينتظر أن "تلمس الكلمة الإلهية مسمعه الرهيف". والحال المأسوية هذه تتمثل الندم العميق الذي كثيراً ما أقض الشاعر وجعله يحيا في صراع دائم بين نزعتين: روحية ومادية، دينية ودنيوية. وهو يشعر في أعماق نفسه أنّه لم يكن قميناً على رسالته كشاعر إذ بدّد "الهبة الإلهية" في حياة ملؤها العبث واللاجدوى. ويعكس الندم العميق الذي لم يفارق الشاعر حتى آخر أنفاسه الطابع المزدوج للحياة التي عرفها أو فُرضت عليه، حياته كشاعر وحياته كفرد غريب ومقتلع دوماً. وصوت الشاعر يشبه أصوات البشر العاديين ولكنّه ليس صوتاً بشرياً فقط بل هو أكثر من صوت بشريّ. فالشاعر انسان ذو قدرات خارقة وحين يغنّي العالم فأنّما "يحوّله" أو يجعله عالماً آخر مانحاً إياه بعداً روحياً ومقدّساً. وهكذا يعرف الشاعر حقّ المعرفة كيف يرى الجمال الإلهي في العالم: في الطبيعة كما في الإبداع البشري، في الشعر والفن كما في الأغاني والحكايات. ونظرة بوشكين الى الشاعر تذكّر بنزعة أفلاطونية خفرة. فالشاعر هو الكائن الأشدّ افتتاناً ب"الجمال الإلهي للأرض" كما يعبّر وليس الصراع الذي يحياه إلا صراعاً بين المثال المرتجى والواقع السلبي. ولكم عاش بوشكين في الحين عينه مرارة الوجود ونشوة الحياة. فالشاعر هو مزيج غريب من حنان وسخرية، من نشوة وخفر، من حبور وتعاسة، من ندم وبراءة، من عنف وسكينة. الشاعر كتلة متناقضات: حين يسمع النداء الإلهي يهجر العالم ويتحسّر على حياته الدنيوية ولكنّه لن ينسى "التزامه" وبحثه الشاق عن "فجر الحرية الجميل" ولا تجذّره في التاريخ الروسيّ ولا حلمه بفردوس أرضيّ أيضاً. ولعلّ بوشكين الذي استسلم في إحدى مراحله الى "نداء" الشاعر البريطاني بيرون الداعي الى الهروب والاعتكاف والعيش في "برج عاجي" لم يلبث أن تخلّى عن هذا النداء حالماً على غرار الشاعر أوفيد أن يدخل تاريخ وطنه. وفيما قال في إحدى قصائده "كلّما اقتربنا من السماء ازداد البرد"، ها هوذا يقول في قصيدة أخرى: "أيّها الشاعر، ملك أنت، عش وحدك، كن الطريق الحرّة...". وإذا كان على الشعر أن يبدأ عبر الهرب والانفصال عن العالم فإنّما ليعود اليه عودات متقطعة متيحاً لنفسه المجال لأن يهرب من جديد وينفصل عنه. وإن لم يكن شعر بوشكين ميتافيزيقياً صرفاً ولا صوفياً صرفاً ولا روحياً صرفاً فهو لم يكن أيضاً واقعياً صرفاً ولا رومانطيقياً صرفاً ولا تاريخياً صرفاً. وهكذا شاء بوشكين أن يسرد في شعره ويروي، أن ينعزل وأن ينفتح على شعبه وأن يطرق كلّ الأنواع من الأغنية الشعرية الى الأسطورة الشعرية الى التراجيديا والرواية والحكاية الخرافية. أبوّة الشعر لا شكّ أن بوشكين استحق أبوة الشعر الروسيّ في ما تعني الأبوّة الشعرية من تأسيس وريادة. وأيّ تأريخ للشعر الروسيّ لا بدّ أن يبدأ به فمرحلته هي "العصر الذهبي" كما يتفق النقاد والمؤرّخون وقد سبقته مرحلتان تاريخيتان لم تشهدا أي شاعر في حجمه ولا أيّ تجربة مماثلة لتجربته. ولم يتمكّن الشعراء المجدّدوون لاحقاً سواء في القرن التاسع عشر أو العشرين أن ينكروه حتى وإن تخطّوه حداثياً. فهو كان القاعدة التي ينبغي الانطلاق منها. وليس انكاره إلا انكاراً لا لرمزه الوطني والروسيّ فقط وإنّما للّغة الروسية نفسها أيضاً. ومهما حاول شعراء مثل الكسندر بلوك ومايا كوفسكي وأنّا أخما توفا أن يتحاشوا آثاره عبر ابتداع أوزان أخرى ولغة أخرى فهم عجزوا عن الخروج عن لغته الرحبة. وقد اعترف هؤلاء به كأب لهم حتى وإن خانوه أوديبياً. يقول الناقد الروسيّ المعروف بيلينسكي: "كان ثمة شعراء مثل بوشكين ولكن لم يكن من شاعر فنان واحد. كان بوشكين الشاعر الروسيّ الفنان الأوّل". ولعلّ ما اتسم به فنه الشعري من وضوح وجلاء ومن صفاء وعذوبة وبساطة جعل شعره في متناول الجميع. وهو كان شرع أصلاً في البحث عن "الينابيع الأولى" للّغة الروسية في الأغاني الشعبية القديمة وفي القصص الشفوية والمتوارثة. ولعلّ متانة السبك في شعره القصصي تحديداً لم تثقل صنيعه ولغته "فلا نظم عنده" كما عبّر تولستوي بل تعبير عفويّ عن الأحاسيس والرؤى والمواقف و"الأفكار". واللغة التي هي أداة الشعر إنّما هي روحه أيضاً. وقد ظل شاعراً غنائياً ووفياً للغنائية في كلّ المراحل التي اجتازها وعبر كلّ الأنواع التي اختبرها: من القصائد القصيرة التي تنعكس فيها ذاته الشعرية صافية كلّ الصفاء، الى القصائد القصصية والملحمية الطويلة التي أخضعها لبناء هندسيّ، ومن المراثي و"المزامير" و"الأغاني الشعرية" الى التراجيديا والحكايات الشعرية. وقد عرف بوشكين الاختلاف في التجربتين اللتين خاضهما أي الشعر والرواية إذ قال: "أكتب رواية ولكن رواية شعرية: أيّ اختلاف جهنّمي". وليس من المستغرب أن يجدّد بوشكين النوع الملحمي الكلاسيكي انطلاقاً من المعطيات السردية والشعرية للقصيدة "الرومانطيقية" وعبر احساسه الحديث جداً بما يُسمى "الحقيقة التاريخية". وقد اعتمد الفطنة والمخيّلة معاً: الحذاقة اللغوية والرؤيا، الهجاء والخيال. لا يمكن أن يقرأ بوشكين إلا كشاعر روسيّ أولاً وأخيراً. فهو حامل "رسالة روسيا الروحية" كما قيل عنه. بل هو "قديس" روسيا الذي تحقق من خلاله "النهوض الروحي للشعب بأسره". قد يكون غوته روسيا وربّما شكسبير وربّما أوفيد أو هوميروس. وظل رمزه مهيمناً على "الأمّة" الروسية طوال الحقبات التي اجتازتها: من الحكم القيصري الى الثورة وما بعدها. وقصائده وقصصه الشعرية دأب الشعب الروسي على قراءتها وحفظها على مرّ الحقبات. وحضر بوشكين في "المنفى" الروسي مثلما حضر داخل روسيا. وكان المهاجرون والمنفيون والمقتلعون من أبناء أمته يحملون كتبه وكأنهم يحملون تاريخهم وأرضهم معهم. وقد يستغرب قرّاء بوشكين غير الروسيين طبعاً عمق هذه العلاقة التي تجمع بين الشعب الروسيّ والكتاب والشعراء الروس وهذا الشاعر الذي لم يحيَ إلا سبعة وثلاثين عاماً وقد أمضى معظمها منفياً داخل البلاد الروسيّة. وقد يستغرب هؤلاء القراء إقرار كتّاب في حجم دوستويفسكي وغوغول وباسترناك وسواهم ب"أبوة" بوشكين علماً أنّهم سبقوه عالمياً وخرجوا من عزلتهم واحتلوا مكانة في الآداب العالمية لم يستطع هو أن يتمتع بها. لكن سرّ بوشكين يكمن في روسيّته بل في فرادته الروسية لغة وروحاً. فشعره أضحى جزءاً من التراث الروسي الذي لا يمكن التخلي عنه ورمزه بات من الرموز التي صنعت مجد الأمّة و"اسطورتها". وحين مات بوشكين قتلاً إثر مؤامرة دبّرت له بدا للحين أقرب الى القديس الروسيّ: أكثر من مئتي ألف مواطن ألقوا على جثمانه نظرة الوداع وخلال أيام ثلاثة. حينذاك أضيئت الشموع حول بيته كما لو أنّه مزار مقدّس. ولم تكن موافقة بوشكين على المبارزة إلا اقداماً منه على ما يشبه الانتحار. فهو في قرارة نفسه كان يدرك أنّه سيكون المقتول لا القاتل. وبدا الموت في عينيه نهاية لحياته الأليمة التي عاشها متنقلاً من منفى الى آخر. كتب الكثير عن بوشكين، عن حياته وعن شعره وبدا هو أقرب الى الشخصيات التي يعجّ بها عالم دوستويفسكي: شاعر يعيش نقيض ما يطمح أن يعيشه بل شاعر فُرضت عليه حياة ما كان هو ليختارها. حياة هي منفى طويل ودائم: بدأ منذ أيام الدراسة في "معهد النبلاء" وانتهى في "البلاط" الذي لم يكن بوشكين شاعره أبداً. وان ارتبط اسم دوستويفسكي بالسجن الذي زُجّ فيه ردحاً فأنّ اسم بوشكين ارتبط بالمنفى الذي لم ينقذه منه سوى الموت قتلاً. وفي مقتبل حياته كاد بوشكين أن ينفى الى سيبيريا ولكنّه نفي الى الجنوب ثم من الجنوب الى المناطق البعيدة. وعرف البلاط القيصري كيف يذله طوال حياته فوضعه حيناً تحت وصاية الأشراف والكنيسة وحيناً تحت وصاية والده، وحيناً تحت رقابة الشرطة. وكان يكفي أن تكتشف السلطة القيصرية ميله الى الألحاد حتى تجدّد نفيه داخل البلاد. أمّا البلاط الذي أمضى فيه فترته الأخيرة فكان أقسى منافيه وأشدّها عذاباً إذ عرّضه القيصر للسخرية والقمع والذلّ. ورضخ هو قسراً نزولاً عند رغبات زوجته التي أشيع عنها أنها محظية القيصر. وفي البلاط لم ينج بوشكين من الحملات التي شنّتها السلطة وجماعته عليه. وقد آلمته كثيراً الإشاعات التي شملت حياته كشاعر وزوج. وحين حانت المبارزة مع أحد ندماء البلاط وجد بوشكين فيها ساعة الخلاص والانتقام: الخلاص من الحياة الأليمة والمهينة التي فرضت عليه والانتقام للشاعر الكامن فيه من العالم والسلطة. ولعلّ حياة بوشكين المأسوية والأليمة والحافلة بالمتناقضات استهوت الكثيرين من كتاب السيرة فاستوحوها جاعلين من الشاعر بطلاً ولكن سلبياً. إلا أنّ سيرة بوشكين لم تطغ على نتاجه. فقصائده هي في أهميّة حياته وفي عمقها وفرادتها. وإن بدت اليوم رواياته الشعرية كلاسيكية أو تقليدية أصيلة أو قديمة ولا سيما أوجين أونيغين وبوريس غودونوف والليالي المصرية وسواها... فأنّ قصائده القصيرة وبعض قصصه تحافظ على رونقها الخاصّ بل على شعلتها وعلى نارها الحارقة. وفي تلك القصائد بدا بوشكين كما قيل عنه "شاعر الخريف" و"الشاعر الذي ينظر الى البعيد"، شاعراً روسياً وعالمياً، كلاسيكياً وحديثاً، رومنطيقياً ولكن على طريقته وواقعياً ولكن على مقدار من الغنائية. وما أصعب اختصار شاعر في حجم بوشكين وسيرة في غرابة سيرته وحياة حافلة مثلما كانت حياته حافلة بالفرح والخيبة، بالحبّ والعذاب، بالقلق والرجاء.