ربما بدأ الخلاف يدبّ داخل الجبهة الاسلامية للانقاذ، على اثر القرار الذي اتخذه مدني مزراق، قائد جيش الانقاذ، وهو الذراع العسكرية للجبهة المذكورة، وأعلن بمقتضاه وقف الكفاح المسلح بشكل نهائي، وعلى اثر الرسالة التي بعث بها عباسي مدني، الزعيم التاريخي للتنظيم الاسلامي الجزائري، الى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وأعلن فيها مباركته الصريحة تلك الخطوة. ذلك ما يخمنه وهل من مجال غير التخمين في متابعة شؤون الجزائر، لما تتسم به غالباً من الغاز ومن انغلاق؟ مراقبون عدة، على "ضوء" البيان الذي اصدره ليل الأحد الماضي، أربعة من قادة جبهة الانقاذ، أبرزهم الشيخ عبدالقادر الحشاني، ارادوا توضيح موقفهم من مبادرة مزراق ومن رسالة الشيخ مدني الى بوتفليقة، ومن رد فعل السلطات على الخطوتين تينك. والحقيقة ان الباحث عن مواطن الاختلاف والتباين في المواقف، في متن البيان المذكور، قد يجد بعض صعوبة في العثور عليها. فالنص ذاك لا يتضمن اعتراضاً صريحاً لا على وقف اطلاق النار ولا على دعم زعيم "الانقاذ" له، بل هو، على العكس من ذلك، يتسم بمساندة لا تخلو من حرارة لوقف العنف ولسياسة المصالحة الوطنية، ولا ينزع الثقة عن رئيس الدولة الجزائرية في بلوغ ذلك. وكل ما يمكن المرء المراقب ان يتبينه، هو بعض تحفظ حول بعض النقاط كقول البيان ان "التوجس بدأ يساور النفوس عندما أفرج عن رسالة الشيخ عباسي. ولم يفرج عنه ولا عن صاحبه علي بن حاج"، علماً بأن الأول قيد الإقامة الجبرية منذ 1997، والثاني مسجون منذ 1991. وهكذا، وإذا ما كانت لقادة الانقاذ الأربعة من اعتراضات عما يجري، فهي لم ترد في بيانهم، بل تم الافصاح عنها لوسائل الاعلام على نحو جانبي، من خلال "مصادر اسلامية قريبة من موقعي البيان"، غُفل من كل تسمية ومن كل صفة تنظيمية، قالت ان الأربعة يرون ان عرض مدني مزراق وضع قوات "جيشه" بتصرف الأمن الجزائري لمساعدته في ملاحقة الجماعات الاسلامية، لم يحصل على تزكية من جبهة الانقاذ، كما ان الرسالة التي وجهها عباسي مدني الى بوتفليقة كانت باسمه الشخصي لا باسم التنظيم الذي يتولى زعامته. وشددت تلك المصادر، على ما قالت وسائل الاعلام، على ان الأربعة يعتبرون "ان الجبهة الاسلامية حزب سياسي لا علاقة لها بالعمليات المسلحة". كيف يمكننا اذن قراءة ذلك البيان، بل ما الجدوى من نص كالمذكور، لا يعبر عن رأي موقعيه بوضوح، بحيث يتوسل اولئك "مصادر قريبة منهم" لقول اهم ما يريدون الافصاح عنه من خارجه؟ التفسير الأقرب والمرجح لكل ذلك ان بيان حشاني ورفاقه لا يمثل اعتراضاً على السياسة المتبعة من قبل جبهتهم، من وقف القتال ومن تفاوض مع السلطات على قاعدة ارساء المصالحة الوطنية، بل ان الخلاف، او الاختلاف، انما يتعلقان بمآلات تلك السياسة، وبما قد تثيره من قلق وتوجس بشأن مستقبل جبهة الانقاذ، والحيز الذي يمكنه ان يكون او ألا يكون لها، في الفضاء الجزائري العام لدى انتهاء الازمة الحالية وعودة الأمور الى الاستتباب. فعبدالقادر الحشاني، وهو يعد من ألمع سياسيي جبهة الانقاذ، تلك التي تولى قيادتها، لوجود زعامات الصف الأول قيد الاعتقال، اثناء انتخابات سنة 1991 الاشتراعية، يبدو انه يخشى الا تعدو التطورات الجارية حالياً ان تكون صفقة امنية محضة بين السلطات الجزائرية والجبهة، بحيث يصار الى انهاء الوجود السياسي لهذه الاخيرة ما أن تتم تصفية ما تمثله عسكرياً، او ما تبقى منه. ومن هنا، ربما، جاء ذلك التأكيد على الطابع الشخصي او الفردي لمبادرة مدني مزراق ولرسالة عباسي مدني الى بوتفليقة، ومن هنا أيضاً ذلك الاصرار على اسباغ صفة "الحزب السياسي" على التنظيم الاسلامي، وهو ما يأتي للإيحاء بأن صفته القتالية امر عارض املته ظروف محددة. وقد ورد في بيان حشاني ورفاقه تذكير بضرورة اطلاق سراح زعيمي جبهة الانقاذ المعتقلين، إقامة جبرية او سجناً، على اعتبار ان ذلك وحده ما يمكنه ان يكون اشارة من طبيعة سياسية وذات مغزى، وتأكيد على ضرورة "فتح الباب امام كل القوى الوطنية من دون استثناء لانجاز حل سياسي شامل ... يعيد الوئام على أسس راسخة". والحال ان قلق حشاني ورفاقه، في ذلك الصدد الآنف الذكر، مبرر وفي محله. فحتى الآن، لم يبدر عن السلطات الجزائرية ما يفيد باستعدادها للتعامل مع جبهة الانقاذ على اساس سياسي، بل لا يبدو انها قد تزحزحت عن موقعها ونظرتها الامنيين في مقاربة الأمور، سواء قتالاً او تفاوضاً. فإذا كان قد تم التوصل الى اتفاق مع الجبهة الاسلامية، فإن ذلك الاتفاق لم يجر مع القيادة السياسية لهذه الاخيرة، بل مع جناحها العسكري، ممثلاً في جيش الانقاذ وقائده مدني مزراق. وإذا كان ذلك الاتفاق عائداً الى 1997، في عهد الرئيس زروال، وبقيت اغلب بنوده طي الكتمان، فإن ما خرج منها الى العلن في الآونة الاخيرة، يبقى من طبيعة تقنية بالدرجة الأولى. فهو يقضي باستصدار قانون عفو، عن طريق البرلمان، او في صورة تعذر ذلك، من خلال اللجوء الى الاستفتاء الشعبي، على ان ينظر القضاء في امر المتورطين في قضايا الارهاب على نحو سريع ودون ابطاء، ينتهي باصدار احكام مخففة، وعلى ان يستعيد اولئك وظائفهم وحياتهم العادية، او يجري الحاقهم بأجهزة الأمن، فيصبحون رديفاً لها في ملاحقة الجماعات المسلحة. والأمر هذا يبدو، في غياب كل ترتيب سياسي، بمثابة إقرار من جبهة الانقاذ بهزيمتها في المواجهة التي كانت، قبل ثماني سنوات، قد تحملت مسؤولية تسعيرها، بحيث انه ما عاد لها من هاجس سوى الخروج منها وضمان عودة مقاتليها الى مزاولة حياتهم المدنية. والهزيمة تلك ذات طابع مزدوج، فالجبهة الاسلامية لم تحقق اي مكسب سياسي او عسكري من المسار الجهادي الذي اطلقته، ثم انها لم تحسن التحكم في العنف الجهادي او احتكاره، بحيث ما لبث هذا الاخير ان تجاوزها وأفلت من يديها وفاض عنها وعن اطرها، عندما تلقفته الجماعات المسلحة، فأمعنت فيه وخرجت به عن كل غائية سياسية، وبلغت به شأو الاجرام الأعمى والصرف. وإذا كان صحيحاً ان النشاط القتالي لجبهة الانقاذ قد كان في حكم المنتهي منذ ان اعلن مدني مزراق هدنة كاملة، من جانب واحد، في 1997، وان قراره الاخير بوقف العمل المسلح نهائيا ومباركة عباسي مدني تلك الخطوة، لا يعدو مفعولهما ان يكون رمزياً، لا يغير شيئاً من واقع الامر على الأرض، فإن الجانب الرمزي يبقى بالغ الأهمية، اذا ما تم التخلي عنه، على ما حدث فعلاً، دون مقابل سياسي. ربما توجبت العودة يوماً الى تحليل الطريقة الكارثية التي اتبعتها الجبهة الاسلامية للانقاذ في ادارة الازمة الجزائرية او قسطها من تلك الازمة، والاستراتيجية البائسة التي اتبعتها في خوض غمارها، لكن ما يمكن قوله منذ الآن ان ما قد يكون قد مثل مقتل تلك الجبهة، طوال السنوات الماضية، هو انها جعلت السلطات القائمة المحور الوحيد لتحركها، في مجال المجابهة كما في مجال التفاوض، فما عرفت كيف تفتح قنوات على القوى المدنية، وهي على بعض قوة وفاعلية في الجزائر، ولا عرفت كيف تنخرط في عدادها وتدعمها وتنال دعمها، بالرغم من توقيعها، مع بعضها، اتفاقية روما. والآن، وقد دخلت الجبهة الاسلامية طور الأفول، يتأكد موقع التكتل الذي شكله المرشحون الستة المنسحبون من الرئاسيات الاخيرة، في سعيه الى ايجاد قطب او حيز مدني وسياسي مستقل عن سلطة المؤسسة العسكرية، فهل سيمكّن بيان حشاني ورفاقه، وجهودهم، الجبهة من الاندراج ضمن تلك الديناميكية، وهي قد تكون فرصتها الاخيرة والوحيدة، أم أن الأوان قد فات؟