كان خليل مطران رائداً بارزاً من رواء التجديد، مهّد بآرائه وبشعره السبيل امام الشعر العربي الحديث ليجتاز مرحلة الإحياء التي كان بدأها البارودي وبعض شعراء في الوطن العربي، وليدخل مرحلة تتمثل فيها روح العصر وقيمه الفنية الجديدة. واتصل مطران في وقت مبكر بالأدب الفرنسي وظل بعد ذلك على صلة بالادب الغربي عامة بالقراءة والترجمة، وحين استقر به المقام في مصر بعد عودته من فرنسا لم يشترك الا قليلاً في متابعة الاحداث السياسية والمناسبات الاجتماعية وآثر ان يعيش حياة الشاعر "المثقف" الذي يميل الى الهدوء والتأمل والاستمتاع بالعمل الثقافي والصلات الشخصية بينه وبين اعلام عصره من الشعراء والكتاب. ولعل طبية تلك الحياة واشتغاله بالصحافة وطبيعة موهبته الشعرية صرفه عن ان يجاري شوقي في رصانة أسلوبه وسيطرته على اللغة وارتباطه بالتراث، فجاء شعره اقرب الى ما كان يتطلع اليه بعض شباب العصر من رواد التجديد. وقدم مطران لديوانه الاول الذي نشر عام 1908 بمقدمة دافع فيها عن طبيعة شعره ووصفه بأنه شعر "عصري" وهي صفة تنبئ بوعيه طبيعة التجديد وبالفرق بين شعره وشعر كبار الشعراء من معاصريه، يقول: ".. يقول بعض المتعنتين الجامدين من المتنطسين الناقدين: ان هذا شعر عصري! وفخره انه عصري، وله على سابق الشعر مزية زمانه على سالف الدهر". ويبشر مطران بأن ذلك الشعر العصري سيغدو أسلوب الشعر في المستقبل، وذلك ما يجعله رائداً عن وعي لحركة التجديد الرومانسية، فيقول: "على انني اصرخ غير هائب ان شعر هذه الطريقة - ولا اعني منظوماتي الضعيفة - هو شعر المستقبل، لانه شعر الحياة والحقيقة والخيال..". ولعل من ابرز سمات ريادة الشعر الرومانسي عنده اتجاهه الى القصص الشعري الذي يصور تجارب تُعدّ من اسس الرؤية الرومانسية، كالمواجهة بين الفقر والغنى والعواطف النبيلة والرغائب المادية. وكان لا بد لهذه التجارب ان تؤدي الى التصوير الفني للعواطف "الذاتية" لأشخاص المحبين. والذاتية - كما هو معروف - من اهم مقومات التجربة الرومانسية. ويدرك مطران ما لتلك القصص التي تبدو "موضوعية" في اطارها القصصي من قدرة - عن طريق الرمز ودلالة المشهد القصصي - على التعبير عن عواطف الشاعر نفسه، فيقول في مقدمة الديوان: "وغاية ما اتمناه لدى القراء من هذه العبر المروية والغرائب المحكية والنوادر الممثلة والصور المخيلة، ان يشاركوني في "وجداني" فيرضوا عن الفضيلة كما رضيت ويآسوا من الرذيلة كما اسيت وان يستفيدوا من مناصحاتي ويتخذوا أدوية لجراحاتهم من "جراحاتي!". وفي الديوان الاول للشاعر الى جانب هذه القصص ذات الطبيعة الرومانسية البادية في التجربة والتعبير، قصيدة فريدة التفت الشاعر فيها الى لحظة من مشاهد الطبيعة واوقاتها، حمّلها الشعراء منذ القديم كثير من احاسيسهم هي لحظة الغروب في قصيدة "المساء". والجديد الذي لفت النقاد والقراء الى هذه القصيدة ان مطران لم يرصد تحولات المشهد المألوف وألوانه رصداً مادياً كما تعوّد الشعراء، بل زاوج بنهج مطرد بين المشهد الخارجي واحساسه الداخلي، مختارا من الخارج في حركته وألوانه ما يناسب حركة عالمه الباطني ويرمز اليه. ومع ان القصيدة - عند التحليل النقدي الدقيق - تبدو قائمة على مجموعة من التشبيهات المتلاحقة كانت الطبيعة طرفها واحاسيس الشاعر طرفها الثاني، فإن ربط الشعور الذاتي بالمشهد و"اسقاطه" على تحولات ألوان الغروب وحركة البحر والريح كان حينذاك جديداً على الشعر العربي، ومبشراً باتجاه فني ونفسي سيكتمل بعد ذلك عند شعراء الحركة الرومانسية المعروفين. وتتسم بعض قصائد الشعر - في بحور قصيرة ان مجزوءة على نظام المقطوعة المتغيرة القوافي - بمرونة ظاهرة وروح غالبة من "الحداثة" التي تخالف ايقاع الشعر في ذلك الزمان. ولعل من اكثر قصائده حداثة في الايقاع والمعجم الشعري والاسلوب والصور، قصيدته "عتاب". ومما يؤكد دور مطران الكبير في ريادة الحركة الرومانسية ما جاء في مقدمة ديوان أحمد زكي ابو شادي وهو نفسه من رواء الحركة المعروفين: "... فقد عرفت محبة هذا الرجل الانساني واستاذيته منذ ثلاثين سنة، إذ تعهدني صغيراً فبقيت اهتدي بهديه، وكان اول ناقد لأدبي. ولي ان اقول عن تأثيره على شعري ما قاله المازني عن أدب شكري، فلولا مطران لغلب على ظني اني ما كنت اعرف الا بعد زمن مديد معنى الشخصية الادبية والطلاقة الفنية ووحدة القصيدة والروح العالمية في الادب واثر الثقافة في صقل المواهب الشعرية". وكان خليل مطران مشغولاً بأمر المسرح وقد ترجم لشكسبير وغيره وشغل منصب مدير الاوبرا المصرية سنوات عدة. ويقدم الاديب المغربي عبدالكريم غلاب صورة شخصية طريفة لمطران، في سيرته الذاتية التي صورت اخيرا، وهو يروي ذكرياته عن حياته في القاهرة وبعض جوانب من نشاطه الثقافي وهو طالب في جامعة القاهرة، فيقول: "... اخرج من دار الاوبرا وقد تعلمت الكثير لالتقي في طريقي بكهول وشيوخ. وتلتقي عيوننا بمدير دار الاوبرا الشاعر الكبير خليل مطران بقامته القصيرة ونظارته السميكة وشاربه الذي يملأ وجهه الصغير، وعصاه التي يتوكأ عليها - دون ان يهش بها على رواد الدار!، المعلمة الفنية الكبرى في تاريخ مصر الحديث - وسيجارته يثوي عقبها بين شفتيه الذابلتين. كان خليل مطران آخر من يغادر الدار بعد انتهاء العرض والاطمئنان الى انه كان في مستوى الابداع الذي تتطلبه دار الاوبرا، متأبّطاً ذراع جورج أبيض بجسمه الضخم ووجهه الاشقر الجميل..".