الصورة التي يكوّنها القراء غالباً عن خليل مطران شاعر القطرين إنّما ترجع في معظمها الى القراءة المدرسية أو الجامعية. فديوان الشاعر لم يشهد إلا طبعات يتيمة حالت دون انتشاره. أما قصائده المعروفة فهي لا تمثل حقيقة تجربته الشعريّة وان بدت قصيدة ك"المساء" من أجمل ما كتب ربما وأعمق ما كتب. ومثلما ظلم الآخرون أياً كانوا قراء أم نقاداً خليل مطران بعض الظلم فهو بدوره لم يتوانَ عن ظلم نفسه حين "نظم" عمداً ما يسمّيه "شعراً عملياً" أي شعراً يؤدّيه صاحبه "بمحض شعوره من تضحية وجهاد في سبيل وطنه ومن خدمات لأبناء قومه...". لكنّ الشعر العمليّ هذا طغى على جزء كبير من ديوان الخليل وأثقل عليه. وشعره أصلاً كما أجمع معظم النقاد ليس في متناول الجماهير والقراء الذين اعتادوا أن يطربوا للشعر، فلا بحوره أليفة ولا قوافيه سهلة ولا ديباجته بسيطة. ناهيك ببعض المطوّلات المملّة قليلاً والقصص التي ما عادت رائجة والأخلاقيات التي انحسرت راهناً. ولعلّ العودة الى ديوان الخليل اليوم تثبت للقارىء أنّ ما يبقى منه قليل نظراً الى حجمه والى وفرة القصائد "المناسباتية" و"الأخوانية". فشاعر القطرين نظم قصائد كثيرة ما كانت لتستحقّ أن يسخّر لها قريضه وخياله. وقد بلغت به طيبته مبلغاً حتى أنّه نظم قصائد اقتصادية مشجعاً عبرها الصناعة المصرية والتجارة وبعض المصارف. إلا أنّ هذه القصائد الكثيرة أثبتت فعلاً أنّ الخليل يمتلك ناصية القريض أيّما امتلاك وأكدت قدرته على تذليل النظم فإذا هو سيّده وليس عبده كما أشار في بيانه الشعريّ الشهير. والطابع الإيجابي الوحيد الذي تتحلّى به هذه القصائد "البائتة" كونها تنمّ عن سرّ صنعته وبيانه وعن دأبه أو كما يقال مراسه الشعري المعاند. ولكن لا ينبغي أن يُقرأ الخليل من خلال هذه القصائد فقط بل عبر ما أنجز من شعر حقيقي أو كما يسمّيه "الشعر الأدبي" وهو الذي "ينظم ويُقرأ ويُسمع" كما يعبّر. وفي ميدان هذا النوع من الشعر يمكن تفضيل قصائد على أخرى ويمكن اختيار قصائد دون أخرى. وقد يكون لقب "الشاعر الوجداني" هو أفضل الألقاب الأخرى التي حملها ومنها: شاعر القصص، شاعر الوطنية، شاعر الوصف، شاعر الملحمة... إلا أنّ إسباغ مثل هذه الألقاب على الشاعر لم يفه حقّه إذا أدرجت قصائد وجدانية صرفة في باب الوصف وقصائد ذات طابع رومانطيقي في باب الوطنيات. ولكن يكفي خليل مطران أن يكون صاحب قصائد في حجم "المساء" و"الأسد الباكي" و"نظرة فلسفية" و"الشاعر" وسواها من القصائد الوجدانية العميقة حتى يستحقّ كلّ ما كيل له من مدائح في ازاء ما كيل له من نقد قاسٍ في أحيان. الانتماء المزدوج عرف خليل مطران شاعراً ومواطناً حالاً من الإزدواجية شملت شعره وحياته معاً، فهو أولاً شاعر القطرين، شاعر مصر ولبنان، شاعر لبناني الجذور ولكن مصريّ المقام والسيرة. وانتماؤه المزدوج أفقده حقيقة الانتماء فلا هو لبناني في ما كتب ولا هو مصريّ تماماً. فاللبنانيون إذ يقرأونه لا بدّ أن يلفوه مصريّاً والمصريون لا يمكنهم أن يقرأوه إلا كشاعر "متمصّر" تطرّق الى معظم الشؤون والقضايا التي عرفتها مصر في مطلع القرن. ولعلّ تدمير تمثاله في مدينته الأم بعلبك خلال الحرب يحمل أكثر من دلالة وكذلك تجاهله لبنانياً وعدم تكريمه. إلا أن اعتباره شاعراً "متمصّراً" في أرض الكنانة يدل أيضاً الى أن شاعر القطرين لم يدخل الذاكرة الأدبية المصرية إلا من أضيق الأبواب. لكنّ هذا الأمر لا يعني أن خليل مطران أُهمل في مصر مثلما أُهمل في لبنان. فمعظم ما كتب عنه في حينه وعقب رحيله كان مصريّاً وأثره في الشعر المصريّ كان أعمق ممّا كانه في الشعر اللبناني. ويكفي أن يتبوّأ حركة أبولو بعد موت أحمد شوقي وأن تنسب اليه حركة التجديد في الشعر العربي انطلاقاً من الساح المصرية. أما أشدّ ما وقع فيه من ظلم لبنانياً فهو حذف اسمه من قائمة الشعراء الذين ألّفوا ما يُسمى "لبنان الشاعر" بحسب صلاح لبكي. ولم يتضح ان كان صلاح لبكي حذف خليل مطران من كتابه الشهير قصداً أم سهواً علماً أنه لم يفته أيّ شاعر لبناني حتى من مرتبة نقولا الترك وبطرس كرامي وسواهما من شعراء عهد الأمير بشير الكبير. ولعلّ كتاب الشاعر صلاح لبكي "لبنان الشاعر" هو بحق مرجع فريد ويتيم، تأريخاً ونقداً للنهضة الشعرية اللبنانية التي تنتهي تخومها الزمنية في الخمسينات أي عشيّة اندلاع الحداثة الشعرية. غير ان ازدواجية خليل مطران لم تقتصر على انتمائه المزدوج بل شملت أيضاً صنيعه الشعري وهويته كشاعر مقلّد ومجدد في الحين عينه، فهو شاعر توفيقي أولاً وأخيراً وفرادته بين شعراء عصره تكمن في سعيه المستميت الى التوفيق بين الشكل القديم والمعاناة الجديدة وقد جهد في أن "يصهر القديم والجديد في تركيب أو تأليف آخر، كما يقول أدونيس، يحمل سمات القديم من جهة فيما يوحي بسمات الجديد من جهة ثانية". والتوفيق الشعري لديه سمّاه طه حسين ب"الاعتدال" فهو في نظره شاعر "معتدل لا يرفض القديم كله وإنما يحتفظ بأصول اللغة وأساليبها...". وعودته الى الشعر القديم هي عودة "المجدّد لا المقلّد" بحسب طه حسين أيضاً. لكن مطران لم يتخلَّ أصلاً عن القديم كي يعود اليه بل جدد من ضمنه ولم يجدده كلياً في معنى الثورة عليه. فالشاعر المعتدل والتوفيقي النزعة لا يطمح عادة الى الثورة والتغيير مقدار ما يهدف الى التجديد انطلاقاً من معطيات القديم نفسه. هكذا لم يتخلّ خليل مطران عن البيان العربيّ والبديع وعن ضروب الفصاحة والبلاغة. وغدا في قصيدته المطوّلة "نيرون" مثلاً "عبداً" للقافية الواحدة أو الروي الواحد على الرغم من تبريره "منظومته" من خلال ما سمّاه "الموضوع الواحد". وكان اعتبر قصيدته هذه آخر مجهود يبذله في هذا النوع من النظم ودعا أهل الضاد الى "ضرورة نهج مناهج أخرى لمجاراة الأمم الغربية في ما انتهى اليه رقيّها شعراً وبياناً". وفي هذه القصيدة مثلما في سواها من قصائد المناسبات بدا الخليل يلهث لهثاً وراء البحث في المعاجم عن القوافي. وكم اضطرّ أن يرصف بعض التشابيه والصفات المجانية والبالية مراعاة لحكم القافية والرويّ. وتصلح بعض منظوماته فعلاً أن تكون مرجعاً للكثير من المفردات الغريبة والفريدة في أحيان. قد يكون من السهل إطلاق صفة التجديد على تجربة خليل مطران لكن تجديده لا يخرج عن سياق عصره. فهو مجدّد نظراً الى ما سبقه في عصر الانحطاط وفي "العصر المظلم" الذي امتد ردحاً طويلاً ولم ينته إلا في مطلع القرن أو في أواخر التاسع عشر. وهو مجدّد أيضاً نظراً الى شعراء النهضة الأولى وهو منهم أصلاً الذين سبقوه في سنوات قليلة من مثل محمود سامي البارودي وجميل صدقي الزهاوي وحافظ ابراهيم وسواهم ممّن سمّوا شعراء "التقليد الواعي" أو عاصروه من مثل أحمد شوقي ومعروف الرصافي وسواهما ممّن عرفوا بشعراء "التقليد والتجديد". يصعب إذاً تصنيف خليل مطران شاعراً مجدداً خارج الحركة الشعرية التي سادت عصره وفيها انتفت الحدود بين الشعراء أنفسهم أوّلاً وبين التجديد والتقليد. ولم يكن كافياً أن ينادي خليل مطران ب"وحدة القصيدة" و"البعد الإنساني" و"الخيال" وأن ينحو منحى رومانطيقياً وأن يبتدع الشعر القصصي والشعر الملحميّ وأن ينفتح على الطبيعة انفتاحاً وجدانياً كي يحتل صدارة التجديد وحده. فالشعراء الذين سبقوه أو عاصروه جدّدوا بدورهم وكتبوا ما كتب الخليل من شعر قصصي وتمثيلي ولا سيّما أحمد شوقي الذي كان سبّاقاً في نظم المسرحيات الشعرية وفي ترسيخ الغنائية كنوع بذاته وان على أنقاض المضمون والمعاناة والفكرة. أما الرومانطيقية التي يقول البعض بزعامة الخليل لها فلم تتجلّ إلا لاحقاً وفي عصر شاعر القطرين نفسه في صنيع شعراء كبار جاؤوا بعده ولكنّهم ماتوا قبله من أمثال: أبو القاسم الشابي 1909 - 1934 والياس أبو شبكة 1903 - 1947 وفوزي المعلوف 1899 - 1930 وسواهم. أما إذا قورن تجديد مطران بما أحدث جبران خليل جبران من ثورة في اللغة والمضمون فأن شاعر القطرين يغدو قديماً بل "رجعياً" حياله وكان جبران توفي قبله بما يقارب ثمانية عشر عاماً. رائد الكلاسيكية الحديثة لعلّ أفضل صفة يمكن اسباغها على خليل مطران هي كونه رائد المدرسة الكلاسيكية الحديثة أو النيوكلاسيكية كما يقال في الشعر العربي. وقد خوّلته ريادة هذه المدرسة أن يجسّد نهاية الكلاسيكية القديمة وبدايتها الجديدة المنفتحة على الملامح الرومانطيقية الأولى ولكن غير المتخلّية عن سحر البيان وإعجاز البلاغة. فشعره أصلاً يجمع بين "العقل والشعور" أي بين الصنعة والفطرة، بين الوعي والدفق الوجداني. وان كان مطران أول من قارب البعد الرومانطيقي فهو ظل في مرحلة البدايات الرومانطيقية. وبدت رومانطيقيته خفرة نظراً الى الشعراء الجدد الذين توالوا من بعده وظلت أقرب الى النزعة الوجدانية العميقة المشبعة بالكآبة والتأمل والسكينة... وتصعب مقارنتها بالرومانطيقية الغربية ولا سيما الإنكليزية أو الألمانية. فالخليل لم يقرأ من الرومانطيقيين على ما بدا إلا ألفرد دوموسيه وقرأ كذلك أندريه شينيه وفيكتور هوغو ولامارتين. ولعلّ السنتين اللتين أمضاهما في باريس لم تتيحا له أن يطلع على جديد الشعر الفرنسي وكان يشهد حينذاك أوج الرمزية ويتهيّأ لإعلان ثورته اللاحقة. ومَثلُ مطران في ذلك مَثلُ أحمد شوقي حين زار باريس وأقام فيها. والأمر لافت حقاً وباعث للحيرة والتساؤل. فالخليل كان يجيد الفرنسية والإنكليزية وعنهما عرّب بعض لامارتين وراسين كورناي وشكسبير. واللافت أيضاً اعتباره أنّ في كلّ ما كتب شاعر "هاملت" قدْراً من "روح البداوة، قوامه الرجوع الدائم الى الفطرة الحرّة". وهذه قراءة "مطرانية" جداً لشاعر ومسرحي من حجم شكسبير كان سبّاقاً في إعلان ثورة الحداثة والحلم واللاوعي... والنصوص التي عرّبها مطران قد تحتاج الى مراجعة خاصة بغية الاطلاع على صنعته كمعرّب وعلى مفهومه للتعريب. البيان الشعري ربّما كان خليل مطران أوّل شاعر يكتب أو يتبنّى "بياناً" شعرياً يعلن فيه رؤيته الى الشعر واللغة. وكان شوقي كتب من قبل مقدّمة للجزء الأول من "الشوقيات" ظلت أقرب الى المقدمة. أما "بيان" مطران الذي قدّم به الجزء الأول من ديوانه فكان بمثابة البيان الذي يوجز نظرياً صنيعه الشعريّ. ولكنّه مقارنة بما أنجز يظل أقرب الى النظرية التي لم تتجسّد كفاية ولكن من غير أن تسبق الصنيع الشعري نفسه ومن دون أن يستوعبها الصنيع كلّية. يُسمّي الخليل طريقته الشعرية ب"الطريقة الفطرية الصحيحة" فهو أراد التجديد وبذل فيه ما بذل من جهد مجارياً "العتيق في الصورة" ومتحرّراً منه لاحقاً. ويوضح "أريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقيه". لكن السؤال هل تحرّر الخليل من القديم كلياً وكيف؟ أمّا أن يكون الشعر مرآة العصر فذاك ما سعى الى تحقيقه وعجز. فلا يكفي الشاعر أن يكتب قصائد وطنية ومناسباتية كثيرة كي يعكس هموم العصر و"أنواع رقيّه"! وأن يكتب قصيدة اقتصادية لا يعني أنّ شعره معاصر تماماً. ولعلّ "المعاصرة" مصطلح ظلّ في رؤية مطران ملتبساً بعض الالتباس على الرغم من انفتاحه على الحياة والحقبة السياسية والشؤون الاجتماعية. إلا أن الخليل يعترف أنه لم يُجدّد تجديداً عظيماً ف"قوالب العرب" ما برحت هي نفسها وكذلك "مذاهبهم اللفظية". أما التجديد بحسبه فهو "أن يخلق الشاعر موضوعاً من أوّله الى آخره" ويصوغه على طريقة الشعراء الغربيين و"العبقريين" تحديداً كما يقول. إلا أنّ أجمل وصف لطريقته الشعرية ما سمّاه هو نفسه ب"المداورة" تخطّياً للصعوبات التي واجهته في التجديد كأن يقول: "رأيت المداورة خيراً من المباشرة في تحريك شيء تركّز في نفوس الناس وعقائدهم". ويعلن الخليل جهاراً أنّه شاء "أن يبقى الشعر كما كان من ناحية البحور والرويّ والأساليب" وأن يدخل "الوحدة على القصيدة" فلا تبقى "قصيدة متناكرة بأجزائها كلّ بيت منها لمعنى أو لغاية". ويسمّي الخليل الشعر الذي ينسج على منوال الأقدمين ب"الشعر الصناعي" فهو منظوم في طريق "المحاكاة" وخالٍ من "الدفع الفطري" الذي تحلّى به الأقدمون. لعلّ نظريات الخليل التي وردت في بيانه وفي بعض حواراته الصحافية لا تمثّل جميعاً جوهر صنيعه حتى وان عبّرت عن مآربه وغاياته الشعرية. وكلامه عن وحدة القصيدة جعله يستعيد فكرة "الموضوع" ويستبعد فكرة "الذات" علماً أنّ معظم شعره الوجداني الجميل والعميق هو شعر ذاتي أكثر منه موضوعياً وقد عرف بعضه ما يسمّيه "الوحدة". أما شعر الموضوعات ولا سيّما القصص فهو شعر "مصنوع" كيلا أقول "مصطنعاً" وليست متانة ديباجته إلا دليلاً على مدى صنعته واصطناعه. وهو أصلاً شعر سرديّ أخفق في تحقيق شعريته كاملة وكذلك في تحقيق سرديته كاملة. ناهيك بما فعله به الزمن حين حذفه من المتن الشعري والمتن السرديّ على السواء. وقد بات قديماً بل أشدّ قدماً من بعض الصنيع الأموي أو العباسيّ. وإذا كان هذا مآل شعره القصصي والملحمي فما تراه يكون منتهى شعره "المناسباتي" الذي يستحيل أن تسوغه ذائقة العصر؟ ولئن اعتبر خليل مطران أن قصائده "خواطر وضّاءة" ذات حلّة "قشيبة غربية عصرية نسج مضر" أي أنّها عصرية وقديمة، غربية وعربية أو مضرية فهو لن يني أن يبشر بما سمّاه "شعر المستقبل" من غير أن يعني منظوماته الضعيفة كما يقول وهو مثلما يحدّده "شعر الحياة والحقيقة والخيال". ولا غرو أنّ مطران جهد كلّ الجهد في جعل شعره صنو الحياة، عماده الخيال والحقيقة معاً. وهما لم يتناقضا في صنيعه بل غدا الخيال وجهاً آخر للحقيقة والحقيقة وجهاً آخر للخيال. ولكنّهما ظلا طبعاً أسيري التأويل الأليف والبسيط: فلا الخيال هنا هو التخييل في مفهومه الرومانطيقي العميق أو الرمزي ولا الحقيقة هي سليلة التأمل الفلسفي والوجودي الصرف. حتى في بعض قصائده التأملية والفلسفية يستخدم كلمة الهيولى مثلاً لم يبدُ شاعراً ميتافيزيقياً أو "متفلسفاً" أو صوفياً صرفاً. وان بدا ذا نزعة حلولية في أحيان فهي اقتصرت على تقمّصه الطبيعة وأنسنتها وجعلها مرآة للعواطف والمشاعر الدفينة. أمّا نظرته الى الحب الذي يؤالف بين الظواهر والمتناقضات فهي تستند الى ما يشبه النظرة المثالية المتجرّدة. كأن يقول في إحدى قصائده "أليس الهوى روح هذا الوجود/ كما شاءت الحكمة الفاطرة". وفي بيانه يتوقف مطران أمام احدى غايات الشعر كما يفهمه وهي "ترضية النفس". وفي هذه "الترضية" يعترف أنّه نظم الشعر متابعاً عرب الجاهلية في "مجاراة الضمير على هواه ومراعاة الوجدان على مشتهاه". ولعلّ في هاتين المجاراة والمراعاة يكمن سرّ الشعر الوجداني الذي كتبه ولم ينظمه شاعر القطرين. فالنظم هنا يستحيل كتابة وجدانية صرفة خلواً من أي افتعال وتصنّع ومشبعة بالتأمل أو التفكير كما يعبّر مطران والخيال الصادر عن الحقيقة كما يقول مطران أيضاً. وإذا الشعر هو "ما بكاه القلب" بل "أنّة" و"مدامع ذرفتها وزفزات صعّدتها...". ولعلّ شعرية الخليل تتمثل خير تمثل في ما كتب من قصائد وجدانية استطاعت وحدها أن تجبه سطوة الزمن وأن تفرض نفسها على الأجيال. وبدت تختصر نظريته وصنيعه في نسيج شعريّ قشيب وفطريّ، مبنيّ بحذاقة انطلاقاًَ من الوحدة الداخلية التي طالما أصرّ عليها الشاعر ومشرع على الحياة والعصر، على الفكر والقلب، على الوجدان والمخيّلة. وقد تكون قصيدة "المساء" خير مثال على رقيّ هذا الشعر وقد اعتبر أدونيس أنّ لها "عصرها الخاص" على الرغم من قراءته النقدية البنيوية لها وأخذه عليها كونها "واضحة ومنظمة وممنهجة تقوم على التسلسل وعلى قدْر من التحليل". لكن حكم أدونيس عليها ب"البكائية الإرتدادية" إذ أنّها "تكشف عن الزمن الميت" لم يكن مقنعاً كلّ الإقناع. فأجمل ما في هذه القصيدة عودتها المأسوية الى الماضي ورجوعها المتفجّع الى الوراء واغراقها في الكآبة الرومانطيقية والجوى والشجن. والشاعر الذي يواجه الداء والموت من خلاله وحيداً تنتهشه ذكريات حبّ غابر يمعن في رثاء الحياة والعالم عبر رثاء نفسه حتى إذا نظر في المرآة أبصر وجهه قاتماً فهو يقول في ختامها: "فرأيت في المرآة كيف مسائي". يظهر الشاعر في "المساء" في أشد صوره كآبة وعزلة: "متفرّد بصبابتي، متفرّد بكآبتي" يقول، ثمّ يضيف: "ثاوٍ على صخرٍ أصمّ". وفي قصيدة مماثلة هي "الأسد الباكي" يعبّر عن وحدته وانسحاقه الأليم كأن يقول أجمل ما يمكن أن يقال عن الشاعر المتألم: "أنا الألم الساجي" أو "أنا جبل الأسى". لا شك أن خليل مطران هو أوّل مَن عمق مفهوم الكآبة في الشعر العربيّ النهضويّ متخلّصاً عبر وجدانية "الأنا" المكسورة والمهيضة من "التضخم" الذي اعترى هذا الضمير المتكلّم طوال عصور. "أنا جبل الأسى" يقول الشاعر مسحوقاً وساحقاًَ نفسه حيال الكآبة المتعاظمة. وقد يكفي خليل مطران أن يكتب القليل من هذا الشعر الوجداني الجميل والعميق كي تُغفر له إخوانياته وقصائد المناسبات وقصائد المدح والرثاء وكذلك وطنياته العادية جداً. وإن نسب بعض الشعراء والنقاد حركة التجديد الى خليل مطران فأنّه بدوره ينسب التجديد الى محمود سامي البارودي وقد وصفه في أنّه "أوّل شعراء البعثة الحديثة". وقد يكون من الصعب حقاً حصر التجديد خلال المقلب الأول من عصر النهضة في شاعر واحد أو شاعرين إذ أن التجديد تمّ جماعياً وعلى مراحل وقد ساهم فيه الشعراء جميعهم. وإن كان شاعر القطرين في طليعة المجدّدين فأن ريادته لا تكمن في هذه المرتبة فحسب وإنّما في أصالته وفي وجدانيته التي لا تضاهى وإغراقه في اختلاجات الذات الإنسانية التي يكمن فيها سرّ الحياة وسرّ الشعر على السواء.