خيمت أجواء من التوتر الشديد على قاعة المحكمة الجزائية في باريس التي عقدت أمس جلستها الأولى للنظر في الاتهامات الموجهة إلى 24 إسلامياً بالانتماء إلى "شبكة ارهابية" نفذت حملة التفجيرات التي شهدتها فرنسا في صيف سنة 1995. وترافق افتتاح الجلسة مع مواجهة كلامية بين رئيسة المحكمة القاضية جانين دري وبعض المتهمين، ومنهم بوعلام بن سعيد المتهم الرئيسي وكريم كوسى وعبدالقادر معماري وعبدالقادر بوهاجر، لأنهم رفضوا الوقوف احتراماً لهيئة المحكمة. فسألت دري المتهمين: "لماذا لا تقفون؟". فأجابوا: "انك ما زلتِ جالسة ولم تقفي". فتجاهلت القاضية الموضوع وبدأت بالتحقق من هويات المعتقلين الماثلين أمامها. فسألت بن سعيد الذي يُعد من زعماء الشبكة، عن جنسيته، فأجاب: "مسلم. ولي أوراق ثبوتية جزائرية تسمح لي بالتجول". وتعمّد متهمون آخرون الاجابة باستخفاف بالغ على أسئلة القاضية، التي يتوجب عليها في مستهل المحاكمة التحقق من أسماء وجنسيات جميع المعتقلين الماثلين أمامها. ورُفعت الجلسة بعد فترة وجيزة من بدئها بسبب توعك صحة أحد المعتقلين الماثلين في قفص الاتهام، ربما نتيجة الحر الذي خيّم على القاعة الصغيرة المكتظة بالحضور ومن ضمنهم عدد كبير من رجال الأمن. وبرر أحد محامي المعتقلين تصرفهم أمام المحكمة بالقول إنهم يعتبرون انفسهم "جنوداً يعملون بوحي ديني وهم صادقون في قناعتهم هذه". وكانت حملة التفجير التي أدت إلى سقوط 12 قتيلاً ونحو مئتي جريح خلال ثماني عمليات استهدفت باريس ومدناً رئيسية أخرى، جاءت بأمر من "أمير الجماعة الإسلامية المسلحة" جمال زيتوني الذي قرر فور توليه لهذا الموقع أواخر سنة 1994 تصدير "الجهاد" إلى فرنسا. وقع الانفجار الأول في 25 تموز يوليو 1995 في محطة "سان ميشال" للقطارات في قلب باريس، وتبعه انفجار ثانٍ وقع عند ساحة اتوال، الواقعة أعلى جادة الشانزيليزيه. وفي 26 آب اغسطس عطلت الشرطة الفرنسية عبوة وضعت على متن القطار السريع الذي يربط بين باريس ومدينة ليون. واتاحت التحاليل التي أجريت على العبوة العثور على بصمات ستقود لاحقاً إلى الكشف تدريجاً عن أعضاء شبكة التفجيرات الموزعة بين باريس ومدينتي ليون وليل. وتوالت التفجيرات: في 3 أيلول سبتمبر عند جادة ريشار لونوار في باريس، وفي 6 أيلول مجدداً في باريس عند محطة تحمل اسم "ميزون بلانش"، وفي 7 أيلول انفجار سيارة مفخخة أمام مدرسة يهودية في فيلوربان منطقة الرون، وفي 17 تشرين الأول اكتوبر عند محطة قطارات "موزيه دورسيه" الواقعة أيضاً في قلب العاصمة. في غضون ذلك، كان المحققون عثروا إثر تحليل العبوة التي عُطلت على متن القطار السريع، على خيط قادهم إلى خالد قلقال، المعروف من أجهزة الشرطة والذي اشتبه بأنه على صلة بالتفجير الذي استهدف المدرسة اليهودية. لكن قلقال قتل خلال مطاردة رجال الأمن له في ضاحية ليون في أيلول 1995 وعثر معه على بندقية، يُقال إنها استخدمت في اغتيال الإمام عبدالباقي صحراوي، أحد قادة "جبهة الإنقاذ"، في أحد جوامع باريس. واعتقلت الشرطة بعد ذلك اثنين من معاوني قلقال هما عبدالقادر بوهاجر وعبدالقادر معماري اللذان أفادا انهما يعتبران قلقال بمثابة قائد لهما. وعُثر معهما على أرقام هاتفية وأوراق ثبوتية باسم ناصر الدين سليماني الذي اتاحت مراقبة الشرطة له التوصل تباعاً إلى كشف الأعضاء الاخرين في الشبكة. وتتم المحاكمة في غياب ثلاثة وجوه رئيسية هي: علي توشنت الملقّب ب"طارق" الذي قُتل برصاص الشرطة أثناء وجوده في أحد فنادق العاصمة الجزائرية في 23 نيسان ابريل 1997، ورشيد رمدا الملقب ب"أبو فارس"، ويُعد بمثابة مموّل الشبكة، وهو معتقل في بريطانيا حيث يُقال إنه كان يعمل في مجلة "الأنصار" وتحاول فرنسا استرداده منذ 1995 ولكن من دون جدوى، إضافة إلى خالد قلقال الذي يعد زعيم مجموعة مدينة ليون والمتورط في تفجيرات عدة، منها تفجير "سان ميشال" وقتل برصاص الشرطة الفرنسية في ضاحية ليون في أيلول 1995. أما الوجوه الرئيسية التي تمثل وجاهياً أمام المحكمة، فهي بوعلام بن سعيد 32 عاماً الملقب ب"مهدي" والذي يقول الادعاء إن "الجماعة الإسلامية المسلحة" الجزائرية انتدبته في ربيع سنة 1995 للتعاون مع توشنت وتنسيق حملة التفجيرات في فرنسا. وأوقف بن سعيد إثر اتصال هاتفي اجراه مع الوجه الرئيسي الثاني الذي يمثل أمام المحكمة إسماعيل آيت علي بلقاسم في تشرين الثاني نوفمبر 1995 وتحدّثا خلاله عن عملية تفجير يُعدان لها في مدينة ليل. وأقر بن سعيد أثناء استجوابه أنه زار منطقة ليون في آب 1995 لمساعدة قلقال على وضع المتفجرة التي عُطلت داخل القطار السريع، والتي كان هو أيضاً ترك بصماته على الشريط اللاصق الذي استخدم فيها، وعلى أجزاء العبوة التي انفجرت عند محطة "ميزون بلانش" نفس يوم تشييع قلقال و"تحية له". وأقر بن سعيد كذلك بدوره في هذه التفجيرات، وبأنه أجرى اتصالات عدة مع المعتقل ناصر الدين سليماني لإطلاعه على كيفية إعداد العبوات الناسفة. وتفيد معلومات المحققين ان سليماني كان رشح من مسؤول الشبكة للحلول محل قلقال بعد وفاته على رأس مجموعة مدينة ليون. أما بلقاسم، فإنه معروف لدى أجهزة الشرطة باسم مستعار هو "جوزيف سفيان"، نتيجة مخالفته للقوانين المعتمدة حول إقامة الأجانب ولتورطه في أعمال عنف وحيازة مخدرات. وأقر بلقاسم للمحققين بأنه أعد العبوة التي كان يفترض أن تنفجر في أحد أسواق مدينة ليل، بناء على أوامر تلقاها من توشنت عبر بن سعيد. ويواجه المعتقلون ال24 عقوبة السجن لمدة قصوى تصل إلى عشر سنوات بتهمة الانتماء إلى عصابة اجرامية على صلة بمنظمة ارهابية. لكن عدداً منهم سيعود ليمثل لاحقاً أمام المحكمة الجنائية التي ستتولى محاكمتهم على القتلى والجرحى الذين تسببوا في سقوطهم.