هل هذا التجمع ديموقراطي في نفسه؟ هل قيادته وهيئاته المؤسسة تتمثل فيها أي سمات ديموقراطية؟ وهل هو مؤتمن على تحمل مسؤولية اقامة مجتمع ديموقراطي حقيقي في السودان؟ الإجابة عن هذا التساؤل هي كما يقول المثل السوداني: "الجواب من عنوانه"، أي ان المظهر يدل على الباطن. وينظر المراقب الى الحقائق الأولية التالية: - إنها تشكيلات طائفية وعنصرية وقبلية على أكتافها ديناصورات شيوعية وبعثية، لا يجمع بينها هدف ولا منهج عمل. - ان رأي كل فرقة منها في الأخريات اسوأ من رأي مالك في الخمر. - انها تواطأت على اتخاذ الديموقراطية ستاراً لخداع بعضها البعض للاستفادة من قدرات بعضها البعض. - وأكبر كذبة في ادعاءاتها انها تريد ان تحقق البيروقراطية بوسائل عسكرية وهي تعلم ان للديموقراطية وسائل لبناء صرحها. وهل الذي يصل "الميس" بالقوة يتركه باختياره؟ ولمن يتركه؟ أيتركه لمن رأيه فيهم أنهم كالنظام الحالي أو اسوأ؟ - وأكبر الكبائر انهم جميعهم يتعاملون مع اميركا تمويلاً وتشجيعاً علناً وعلى رؤوس الاشهاد على رغم ان اميركا لها رأي فيهم أفراداً وجماعات وهم لهم رأى فيها. بل ان بعضهم يمد يداً لها ويدس بالأخرى خنجر اغتيالها. وهل ينسى لها الشيوعيون والبعثيون ما فعلته بتجاربهم حيثما أقاموها؟ هذه المعارضة بتركيبتها الحالية لا تمثل الطموحات السودانية الحقيقية الغالبة ويجب ان يلغيها السودانيون من سجلهم السياسي وان ما تقوم به حشرجة روح مريض محتضر. والتفاصيل التي نسوقها تؤكد ما ذهبنا اليه: أولاً: عناصر التركيبة: تركيبة التجمع عبارة عن خلطة ذات أهداف ومناهج وارتباطات خارجية متضاربة مما يدل على وهن العلاقة وعدم صدق النوايا... انها مركبة من: - حزبي الأمة والاتحادي الديموقراطي وهما حزبان طائفيان يتعاملان مع ذوي العلاقة بينهما من السودانيين تعامل السيد مع التابع وتعامل أهل الحق المقدس مع المريد الطائع طاعة العجينة في يد خبازها، على رغم ان الاسلام لا يعرف حقاً مقدساً لإنسان على آخر. وهذان الحزبان هما المسؤولان عن ضياع الديموقراطية وضياع التنمية وضياع استقرار البلاد وسبب التيه الذي عاشته أربعين سنة من الاستقلال كأربعين بني اسرائيل بمناوراتهما حول السلطة وتلاعبهما بمقدرات أمة السودان. انهما لم يؤسسا ولم يربيا اتباعهما تأسيساً وتربية اساسها المسؤولية الوطنية والحقوق المدنية الفردية في اطار حقوق الجماعة العامة والدفاع عن الاثنين في وجه أي خطر داخلي أو خارجي. انهما يفْهمان ويُفهمّان أتباعهما ان حركتهم وسكونهم بإرادة السيد وحده. هو المفكر والآمر والناهي والخصم والحكم. وضاع حق من يخرج عن هذا في الدنيا والآخرة. - ومن حزبي الشيوعي والبعث... وهما حزبان يمثلان أقصى يسار السياسية. وليتصور القارئ كيف تلتقي أهداف حزبين في أقصى يمين السياسة مع حزبين في أقصى يسارها. لا أهداف متجانسة ولا مناهج عمل متقاربة ولا جذور يمكن ان تلتقي في جوف تاريخهما. فضلاً عن ان هذين الحزبين ليس لهما اليوم وجود شعبي في السودان، بدليل ان الحزب الشيوعي حصل على ثلاثة مقاعد في آخر انتخابات برلمانية لم يزد عدد الذين صوتوا فيها عن خمسة آلاف نسمة، وخرج حزب البعث "من المولد بدون حُمّص". وينتمي هذان الحزبان لتاريخ في الخارج لا يمكن ان يرغب سوداني عاقل في تكراره سودانياً. وهل يرضى عاقل ان تكرر في السودان تجارب ستالين وعبدالكريم قاسم؟ أم يرضى ان تُجرّب تجارب البعث حيثما حكم؟ - ومن تشكيلين عسكريين أحدهما بقيادة العقيد جون قرنق والآخر يقوده العميد عبدالعزيز خالد... وكلاهما عسكري ولا علاقة لهما بأي فكر أو منهج أو تربية ديموقراطية مثلهما كمثل أي فرانكو أو بيونشيه. ويتميز العقيد جون قرنق عن الآخر انه لبّس حركته لباساً قبلياً وهو أمر يزيده خطورة استبدادية ويمهد له ان يتحول "هتلراً" ان تسلم قياد السياسة السودانية، والدليل الى ذلك انه، وهو ما يزال يقاتل في أطراف الحدود السودانية، جعل له سجوناً ومحاكم ومعتقلين من بني جلدته الذين قالوا له: "أهذا إلهام أم هي الحرب والكر والفر؟ وهو يريد ان يتولى أمر كل السودان بعشيرة واحدة من خمس عشائر هي كل قبيلته الدنكا وجميع عشائر القبيلة مجتمعه لا تساوي واحداً من ثلاثين من حجم سكان السودان...! أما العميد عبدالعزيز فيريد ان يزحم المسرح السياسي السوداني بمئة وخمسين متطوعاً هم كل مجنديه في أربع سنوات. وقد قرأت له لقاء مع مندوب مجلة "الوسط" عام 1996 ادعى فيه انه سيدخل الخرطوم في كانون الثاني يناير 1997. وهو حتى اليوم ما زال ينقر في الحدود الاريترية. فماذا يكون مستوى نظره السياسي اذا كان بمثل هذا المستوى من السذاجة العسكرية؟ - ومن تشكيلين آخرين قبليين احدهما يتحدث باسم غرب السودان والآخر عن شرق السودان. ولا يستطيع التشكيلان الادعاء بأنهما أعزُّ نفراً وأكثر عدداً من قبائل الشرق والغرب الأخرى كالزريقات والهبانية وحمر والكبابيش والبشاريين والبني عامر وغيرهم من القبائل الراضية بحركة التدرج السياسي والاجتماعي وما يمكن ان تناله من نصيب فيها وما تساهم به من عطاء في دفعها، من دون ان تحمل السلاح لتغتصب من "قطعة الجبن" أكبر مما تستأهل. والأصوب - عندي - ان يرعوي هؤلاء عن استعداء غيرهم من القبائل لحمل السلاح والر ضى بأسلوب التسويات الديموقراطي الأجدى والأسلم لهم ولغيرهم، لأن التجربة الصومالية التي حاولت فيها بعض القبائل اكثر من المعقول أدى بها الى ان تعض أصبح الندم اليوم. - تضم التركيبة نقابات عمالية ومهنية ليست لها قواعد شعبية. ولو سايرناها بمنطقها ان النقابات والاتحادات المهنية عنصر من عناصر العملية السياسية فإنها فاتها ان النظام الحاكم في السودان قد غيّر كل الشكل والمضمون لمثل هذه التنظيمات مما سلبها الوجود الفعلي في الساحة النقابية السودانية. والأصوب ان تدرك النقابات والاتحادات ان "دورها ليس سياسياً وانما هو في تطوير وتحسين أوضاع عضويتها اقتصادياً كما الحال في ظل الديموقراطيات الغربية اليوم. فمهوم ان النقابات هي سيدة المسرح السياسي انتهى بفض الاتحاد السوفياتي و"هيصة" شرق أوروبا، والأحسن للذين يعيشون في تاريخ العقائدية السياسية ان يراجعوا فكرهم ومعلوماتهم. ومجرد قبول التجمع لهم عنصراً من عناصر العمل السياسي الديموقراطي دليل الى تخلف التجمع سياسياً وقصور فهمه للديموقراطية. - وغريب الغرائب ان نجد في قائمة المؤسسين ما يسمى القيادة العسكرية الشرعية. قيادة القوات المسلحة التي دقت المسمار الأخير في نعش الديموقراطية الأخيرة هي اليوم أحد مؤسسي التجمع لإعادة الديموقراطية! إن الأمر لا يعدو ان يكون طرفة من الطرف السياسية. هذه المتناقضات التي حشدت نفسها في التجمع من أقصى اليمين واليسار ومن القبليات والعسكريات والطائفيات لا يمكن ان تكون هي المثل الذي ينتطره السودان الجديد. ثانياً: قيادة التجمع: وسُلّمت قيادة التجمع لمحمد عثمان الميرغني وهو رجل حظه في الأنوار الديموقراطية مثل حظ غريب الدار والأهل. هو يفهمها في حدود انه هو السلطة النهائىة. ولنراجع سجله العملي في تاريخ الديموقراطية السودانية: انه يجلس على سدة زعامة الطائفة الخاتمية وزعامة الحزب السياسي الذي يمثل مصالحها لأكثر من ثلث قرن زماناً - حوالى أربع وثلاثين سنة. وقد يقول قائل انه في ذلك لا يختلف عن الصادق المهدي وحسن الترابي ومحمد ابراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي. والرد على هذا انه بز الزعماء الآخرين، فبينما أولئك اجروا انتخابات صورية اثر مؤتمرات دورية وخرجوا ببرامج لم يلتزموا بها... لم يجر مرشد الخاتمية أي انتخابات تأسيسية لحزبه ولم يتعامل مع لجنته المئوية التي ألحت على الاجتماع لإعادة تأسيس الحزب بعد سقوط نظام جعفر نميري، وألحت على وضع برنامج انتخابي، وتطوعت جماعة فوضعت مسودة برنامج لم يأخذ به المرشد الزعيم. وعلى رغم ان الحزب يحمل صفة الديموقراطية في عنوانه إلا انه لم يمارسها في نشاطاته الداخلية مطلقاً. وبلغ به الحال في التعامل مع الديموقراطية ان حرص على الا ينظر مجلس الوزراء الائتلافي في اجندته الاسبوعية قبل ان يراجعها بنفسه مع رئيس الوزراء ويبتا فيها ثم يذهب رئيس الوزراء ليبلغها للوزراء. وجمد انشاء مجلس التخطيط القومي للبلاد لأنه يضعف سلطات الوزارات الاقتصادية التي كانت من نصيب حزبه في الائتلاف. وجمد اعادة تأسيس جهاز أمن الدولة العام إلا إذا وضعت قيادته في يد أحد أتباعه. وعطل تشكيل اللجان البرلمانية الى ان يعطى اللجان الأساسية التي طلبها. وهكذا عيّش البلاد من دون مجلس تخطيط اقتصادي ومن دون جهاز أمن عام ومن دون لجان برلمانية وعطّل سياسات التخطيط التنموي ومشروعات قوانين اصلاح ما أفسده نظام نميري، وعرّض البلاد للمؤامرات لأنه يفهم الديموقراطية من خلال مصلحة حزب طائفته فقط لأكثر من سنة ونصف السنة... وعلى من يريد المزيد من تفاصيل هذه المأساة ان يراجع مذكرات رئيس الوزراء في كتابه "الديموقراطية عائدة وراجحة". وهو نفسه اليوم يقود التجمع لإعادة الديموقراطية... أية ديموقراطية هذه التي سيعيدها الينا؟ أهي من هذا الطابع الذي مارسه في ائتلافاته مع الصادق المهدي بين 1986 و1989؟ إنه مرشد وليس رئيس حزب أو ائتلاف أو تجمع. لأن الحزب والتجمع والائتلاف معنا، الحوار والحلول الوسط والنزول الى الحد الأدنى والتسويات وهي مقومات الديموقراطية... أما المرشد فهو المرشد المستعلي على القاصرين. وهل هذا النوع من القيادة يمكن ان يحقق ديموقراطية وتغييراً ديموقراطياً كالذي يأمل فيه السودانيون، ام سيكون الوضع استبدادياً مثل ما هو عليه النظام الحالي؟ * كاتب سوداني.