بعد أسابيع يدخل العراق السنة العاشرة من عمر الحصار، الذي بدأ في آب اغسطس 1990، هذا الحصار الذي تأكد تماماً أن من دفع كلفته الباهظة هو الشعب العراقي لا السلطة والنظام اللذان كانا من المفترض ان يوهن الحظر من قوتهما المتبقية، بعد أحداث حرب الخليج الثانية عام 1991. ومع أن الدراسات والاحصاءات تورد أرقاماً مذهلة لحجم تلك الخسائر التي تكبدها العراق خلال سنوات الحظر، وتعرض بتقارير دقيقة للانهيار الاقتصادي، في العراق، إلا أن كل تلك الدراسات - أو معظمها - تغمض عينيها تماماً عما آلت إليه فداحة الخسائر إزاء النظام العراقي نفسه، والذي حاول - وما يزال - ان ينأى بأجهزة حكمه الاساسية العسكرية والأمنية والاعلامية بعيداً عن تأثيرات الحصار، وعمل منذ البداية على تحصينها اقتصادياً وترفيهها. وبهذا المعنى فإن طوفان الحصار حل دماره بكل فئات الشعب العراقي، فيما مركب النظام يطفو على السطح، مستفيداً من الطوفان غير آبه به، وهنا يمكن ان تصدق النتيجة القائلة، إن السلطات العراقية مدّد عمرها الحصار طيلة السنوات التسع الفائتة، إذ أن المعادلة أصبحت "حكم الدولة المترفة لشعب جائع". ومهما قيل ويقال عن تحسين معيشي ما للفرد العراقي بعد اتفاقية "النفط مقابل الغذاء" فإن واقع الحال يشير إلى أن تلك الأقاويل ما هي إلا محض هباء، فمعدلات الموت بسبب نقص الغذاء والدواء ما تزال مستفحلة، وتدني الوضع الاقتصادي والفقر ساعدا على انتعاش الجريمة بأنواعها، الفرار من العراق نحو أي أرض أخرى صار مطمحاً لملايين السكان. فلماذا تستمر هذه المفارقة بين شعب يزداد وهناً في الجانب الاقتصادي والصحي، اضافة الى استلابه الانساني وبين سلطة خرجت مدحورة مهزومة في حرب الخليج لتلتقط انفاسها من جديد وتستأثر بكل عناصر القوة، وأهمها الاقتصاد؟ صحيح ان السلطة في العراق اقترفت جرائم وأخطاء لا تغتفر ولا يمكن ان نحصرها هنا بعجالة، سواء بحق الشعب العراقي أم بحق جيران العراق من العرب وغير العرب، بيد أنه من السذاجة بمكان أن نصف هذه السلطة بالغباء، فحينما خرجت منكسرة في حرب الخليج الثانية، وبعد أن تلاحقت فور ذلك انتفاضة آذار مارس التاريخية في جنوبالعراق وشماله، وحقق الاكراد حكماً ذاتياً لأنفسهم ترسخ بقوة ابتداءً منذ العام 1992، أدركت تلك السلطة أن الزمن والمعطيات السياسية والتاريخية لم تعد تعمل لمصلحتها، وأن أي ملامح من توافق - إذا كان ثمة شيء من ذلك - بينها وبين شرائح ما من الشعب انتهى الى غير رجعة. وهكذا، ومثلما كانت نُسفت البنية التحتية لتأسيس أركان وأجهزة الدولة تحت ضربات قوات التحالف، فإن العلاقة بين المواطن العراقي وهذه الدولة انتهت منطقياً وحقيقة، منذ نتائج تورطها في اجتياح الكويت، إن لم نقل قبلها. وتلك الحقيقة لم تكن غائبة عن السلطة العراقية، بل إنها هي أول المكتشفين لها، فليس عجيباً بعد كل هذا أن تسارع لكسب الوقت وتعمل كل ما في وسعها وتجند كل ما لديها من قوة اقتصادية وأمنية وعسكرية من اجل بقائها. أما الشعب الذي ثار عليها يوماً ورفضها فليس هنالك ما يمكن فعلاً أن تقدمه له في شأن إزالة أو تخفيف معاناته التي تزداد فجائعها يوماً بعد آخر، وبذلك يكون المواطن العراقي تحت حصارين: حصار من الخارج، وآخر تمارسه السلطات بضغوط مباشرة، أو غير مباشرة ولو شئنا أن نضرب مثلاً، فالشواهد كثيرة. فالعراق الذي هو ثاني أكبر دولة نفطية في العالم بعد المملكة العربية السعودية، إذ يقدر احتياطه النفطي بنحو 112 بليون برميل، ينتج حالياً 5،2 مليون برميل يومياً، يصدر منها نحو مليوني برميل بموجب اتفاق "النفط مقابل الغذاء" وبقيمة 2،5 بليون دولار كل ستة أشهر. ومع أن هذا المشروع الإنساني لانقاذ الشعب العراقي طرحته الأممالمتحدة من جانبها قبل ستة أعوام، إلا أن الحكومة العراقية وقفت بالضد تجاهه ولم توافق على تطبيقه، هذا لأن القرار كان لمصلحة المواطن العراقي. وحينما أذعنت الحكومة العراقية لنداءات وضغوط دولية عدة، من أجل تطبيقه، راحت تتلكأ في آليات التطبيق، وكان الهدف الاستحواذ على منافع ذلك الاتفاق ليصب في مصلحة النظام. وبعد مرور سنتين تقريباً من بداية العمل به تمكنت الحكومة العراقية من ايجاد ثغرات ومنافذ لجهة استفادتها هي منه، وأن تلقي الفتات من بقايا العائدات الغذائية والدوائية لفئات منتفعة ومتعاونة مع النظام. أما الشعب فمصيره أن يتذوق الموت والمرض والانهيار، وهذا يفسر حقيقة تلك الدراسات الدولية المعتمدة، التي تشير إلى عدم جدوى اتفاق "النفط مقابل الغذاء والدواء" واستمرار معدلات الوفيات بسبب افتقار هذين العنصرين لدى العائلة العراقية. ويبدو واضحاً ان الديموغرافيا العراقية الحالية التي اختلفت تماماً عما كانت عليه قبل تسع سنوات خلت، هي استراتيجية، وخريطة رسم لها بدقة النظام العراقي الذي لم يكفه استخدام السلاح والسجون والاعدامات لتمزيق الديموغرافيا التقليدية للعراق، وإذا كان الحظر القادم من الخارج هدفه اسقاط النظام، فإن النظام استخدم الحظر لإنهاك العراقيين، فنحن اليوم إزاء عراق في الشمال يحكمه الأكراد وآخر تقبض عليه السلطة بالنار والحديد، عراق مستباح في حدوده وسيادته وأجوائه، ومواطنون يفرون منه بحثاً عن الحرية والكرامة. وتلك كلها أمثلة حقيقية لوطن أصبح هشاً وبتخطيط معمول به سلفاً من الحكومة العراقية ذاتها لا لشيء، إلا لبقائها، مهما كانت الخسائر، حتى لو كانت العراق برمته، تاريخاً وشعباً وأرضاً. لذلك فليس من المدهش ان تمضي اليوم الحكومة العراقية لتفصّل شعباً عراقياً آخر حسب رؤيتها ومزاجها، ليكون متلائماً في المستقبل مع تطلعاتها العدوانية ضد الاشقاء والأصدقاء تحت ذرائع معارك التحرير السيئة الصيت والتي كُشفت دوافعها ومقاصدها. لكن السؤال المهم هو: هل ستنطلي مرة أخرى تلك المهازل على الأجيال الجديدة في العراق أو غير العراق، بعدما كشفتها أجيال ماضية؟ وهل يمكن أن تجد الخطط الجهنمية للنظام العراقي أذناً مصغية، من قبل أجيال جديدة من العراقيين، اذا ما قرأوا سطراً من فجائع هذا النظام؟ أشك في ذلك. * كاتب عراقي مقيم في القاهرة.