ربما كان وجود قوات روسية في مطار بريشتينا محرجاً مرة للقوات الغربية الا انه محرج مرتين للحكومة الروسية. الجنرال ليونيد ايفاشوف، وهو من أبرز الضباط في وزارة الدفاع الروسية ، صرح علناً بأن الاتفاق على كوسوفو الذي أيدته روسيا، كان استسلاماً لحلف شمال الأطلسي. ولم ير كبار الضباط الروس انتصاراً يذكر في اصرار حكومتهم على عدم وضع القوات الروسية في كوسوفو تحت امرة حلف شمال الأطلسي، والمطالبة الفاشلة بسيطرتهم على قطاع من كوسوفو، مع العلم ان قرار مجلس الأمن الدولي تضمن ملحقاً يشير الى "قيادة وسيطرة موحدتين"، الا انه لا يقول تحديداً ان حلف شمال الأطلسي مسؤول عن هذه القيادة والسيطرة. وتبين بسرعة ان الحكومة الروسية في واد، وجيشها في واد آخر، فوزير الخارجية ايغور ايفانوف وعد وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت شخصياً بأن القوات الروسية لن تدخل كوسوفو مباشرة، ومن دون تفاهم مع حلف شمال الأطلسي، إلا ان هذه القوات دخلت المقاطعة، بل عاصمتها واحتلت المطار الذي كان يفترض ان تجعله القوات البريطانية مركز قيادتها القطاع الأوسط، والأكبر، من كوسوفو. وعاد ايفانوف فوعد السيدة اولبرايت بأن القوات الروسية ستنسحب، الا انها لم تفعل. وحاول الرئيس كلينتون اقناع الرئيس بوريس يلتسن بإصدار أمر الى هذه القوات بالانسحاب، الا ان كل ما حصل عليه هو وعد بمزيد من التفاوض. وربما كان سبب موقف يلتسن انه يؤيد موقف الجيش الروسي ضمناً، الا ان الأرجح ان يلتسن يخشى ان يصدر امراً الى جيشه فلا يطاع، ويفتح على نفسه باباً لا يعرف اغلاقه. يمثل هذا التطور خطراً كبيراً في بلد يملك مخزوناً نووياً يكفي لتدمير العالم مرات عدة، مع وسائل ايصال الأسلحة الى أهدافها، وهي نقطة لا يمكن ان تغيب عن فكر قادة حلف شمال الأطلسي. في مثل هذا الوضع نجد ان الذين فتحوا زجاجات الشمبانيا للاحتفال على الطريقة الغربية بالنصر الغربي استعجلوا، فالحل في كوسوفو لم يكتمل، وهو خلق مشاكل جديدة أكبر من المشكلة الأصلية. هناك مشكلة مع الصين، بالاضافة الى روسيا، وبكين لم تنس اصابة سفارتها في بلغراد، وقد اخرت قرار مجلس الأمن، ثم تحفظت عليه، بعد ان كانت عارضت الحرب الجوية من البداية، وهناك قلق عام حول العالم من انتزاع الولاياتالمتحدة، عبر حلف شمال الأطلسي، حق القرار في الحرب والسلام حول العالم من مجلس الأمن الدولي. وقد صدر الاتفاق الأخير عن مجلس الأمن بعد اصرار دول كثيرة على ان حلف شمال الأطلسي ليس المرجع لتقرير الخير والشر في العالم، خصوصاً ان اداءه يناقض نصاً واضحاً في ميثاق الأممالمتحدة يمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء. مع ذلك كانت الحرب ضد نظام سلوبودان ميلوشيفيتش عادلة جداً، وقد بدأت قوات الأطلسي تدخل كوسوفو مع انسحاب القوات اليوغوسلافية، ويبقى ان تكتمل هذه العدالة بعودة اللاجئين الى قراهم المدمرة، وأرضهم المحروقة، وان يساق ميلوشيفيتش الى محكمة جرائم الحرب، ومعه أعوانه الكبار، ليحاكموا على ما ارتكب من جرائم ضد الألبان في كوسوفو. هذه الجرائم مستمرة، وقد ترك الجنود الصرب المنسحبون وراءهم مدناً وقرى محروقة، وأوقعوا ضحايا جدداً في حملتهم الاجرامية المستمرة على السكان المدنيين. وهناك مهمة مزدوجة يجب ان تنهض بها القوات المنتصرة فوراً، هي مساعدة اللاجئين العائدين على اعادة بناء مناطقهم المدمرة ليستطيعوا العيش فيها، وفي الوقت نفسه جمع الأدلة ضد نظام بلغراد، فقد كان واضحاً ان القوات الصربية المنسحبة حاولت اتلاف الأدلة على المجازر التي ارتكبت. هذا على صعيد كوسوفو نفسها، أما على الصعيد الدولي، فربما كان من الحكمة الوصول الى تفاهم مع روسيا، والصين، وكل الدول المعترضة او المتحفظة، حتى لا يتحول النصر العادل الى هزيمة للاستقرار والسلام والأمن في العالم كله. ولعل المواجهة الخطرة بين الحكومة الروسية والجيش من نوع الضارة النافعة، إذ فتحت عيون التحالف الغربي على ضرورة التفاهم حتى لا ينفجر النصر العسكري في وجوه أصحابه.