يمكن اعتبار القمة الأوروبية التي عقدت في كولونيا/ المانيا مطلع الشهر الجاري - وهي القمة الأخيرة في ظل الرئاسة الالمانية - انها حققت نجاحاً على أكثر من صعيد واخفاقات على اكثر من صعيد أيضاً. واذا كان الاختراق السياسي الحاسم الذي حصل في حرب كوسوفو مع بدء القمة طغى على كل ما عداه فلا بد هنا من تقويم أهم ما عالجته القمة. اسكندر الديك يعقب: طغت حرب كوسوفو على القمة الأوروبية التي انعقدت في كولونيا تماماً كما حدث لقمة برلين التي عقدت قبل شهرين ونصف الشهر. لكن الفارق الكبير بين الاثنين ان قمة برلين انعقدت مع بداية تفجر حرب كوسوفو وقمة كولونيا مع التوصل الى انهائها. والى جانب المفوض الأوروبي مارتي اهتيساري والمفوض الروسي فيكتور تشيرنوميردين كان المستشار الاتحادي غيرهارد شرودر الشخص الثالث الذي سُلطت الاضواء عليه باعتباره هو وحكومته مهندس خطة السلام الدولية التي وافقت عليها القيادة اليوغوسلافية في اليوم الأول من انعقاد القمة. وتحول هذا الانتصار الى اجواء احتفالية في القمة لم تشهدها أية قمة أخرى توجت في مشهد العناق الذي حصل بين اهتيساري وشرودر بعد عودة الأول من بلغراد وفي جيبه موافقة الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش على خطة الحل السياسي. وتمكن شرودر بشكل خاص من جمع نقاط عدة لصالحه على الصعيدين الداخلي والخارجي لتمكنه من انهاء حرب البلقان. وهنالك من يقول ان الحرب كانت ستستمر فترة أطول لو لم يدفع المستشار الالماني ووزير خارجيته يوشكا فيشر باستراتيجيتهما المزدوجة مواصلة الغارات الجوية والبحث عن حل سياسي مع الأخذ في الاعتبار الموقف الروسي الى نهاية المطاف رغم عدم الرضى الاميركي عليها. ويمكن القول ان شرودر توج الرئاسة الالمانية للاتحاد الأوروبي بانتصار سياسي ومعنوي كبيرين مع انتهاء فترة الرئاسة في أواخر الشهر الجاري. كما ان اهتيساري سيبدأ الرئاسة الفنلندية للاتحاد في أول تموز يوليو بانتصار مماثل لشخصه ولبلاده. وعلى الرغم من ان القمة الأوروبية بحثت أو اقرت موضوعات اخرى مثل "معاهدة العمالة" لمحاربة البطالة في أوروبا و"روزنامة الفين" وتوسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً وغير ذلك، إلا ان اجهزة الاعلام ركزت دون استثناء على قضية كوسوفو والتوصل الى حلها سلمياً، الأمر الذي جعل الرأي العام مشدوداً لها غير مهتم بالأمور الأخرى التي عالجتها القمة واقرتها. مسألة واحدة اخترقت "الحصار الاعلامي" غير المقصود بالطبع لأن لها علاقة غير مباشرة بحرب كوسوفو، هي مسألة تحديد واقرار فحوى السياسة الخارجية والدفاعية للاتحاد الأوروبي في القارة. واتخذت القمة قرارين هامين: الأول يتعلق بحل مؤسسة "الاتحاد الأوروبي الغربي" العسكرية التي انشئت في الخمسينات ودمجها في الاتحاد الأوروبي حتى أواخر العام 2000، والثاني يتعلق بتعيين الأمين العام الحالي لحلف الناتو خافيير سولانا الذي ستنتهي فترة ولايته في أواخر العام الحالي في منصب جديد يحمل اسماء عدة مثل "مفوض سام" و"مستر أوروبا" و"مستر غ.أ.س.ب" وهي الأحرف الأولى ل"منسق السياسة الدفاعية والخارجية". وهنالك ايضاً من يطلق تعبير "وزير خارجية ودفاع الاتحاد الأوروبي". وسيكون على سولانا الذي اختير بإجماع كبير بسبب خبرته الواسعة التي جمعها والقدرة الكبيرة التي يتمتع بها لتنفيذ الخطوات المقرة توحيد السياستين الأمنية والخارجية لدول الاتحاد في المستقبل وتمثيلهما بصوت واحد في العالم. ومعروف ان أوروبا تسعى منذ فترة الى ترتيب شؤون بيتها الأوروبي أمنياً بشكل مستقل عن الولاياتالمتحدة الاميركية وحلف الناتو، ولكن ليس في تناقض معهما كما يخشى بعض الأوساط الاميركية. ويجمع المراقبون هنا على ان النتائج التي استخلصتها القمة الأوروبية من اندلاع حرب كوسوفو في قلب أوروبا وعجز الأوروبيين عن وضع حد لها لوحدهم هي ان القارة بحاجة الى سياسة أمنية ودفاعية مشتركة قادرة دون مشاركة اميركية مباشرة على منع النزاعات والحروب فيها. وكانت واشنطن تطالب الأوروبيين باستمرار بذلك في السنوات الماضية، خاصة بعد اندلاع الحرب في البوسنة، ولكن المراقبين يلحظون اليوم انه عندما بدأ الأوروبيون في وضع خطوات تنفيذية على هذه الطريق أخذ الاميركيون ينظرون بعين حذرة الى الأمر ويطلقون التصريحات التي تحمل غموضاً واضحاً حول موقفهم الفعلي. ومن الطبيعي القول ان مثل هذا التوجه الأوروبي لا يتم بين ليلة وضحاها ولا حتى خلال بضع سنوات، وانما يتطلب عقداً أو عقدين من الزمن كما ذكر رئيس البرلمان الأوروبي خوسيه مارياجيل روبلس في القمة. إلا ان اللبنة الأولى لهذا التوجه وضعت للمرة الأولى بالفعل في قمة كولونيا. واتفقت القمة على الموقع الاساسي الذي على روسيا ان تأخذه ضمن الهندسة الدفاعية الأوروبية المستقبلية، ولم يفوت شرودر أية مناسبة للتأكيد بأن لا شيء ممكناً في أوروبا دون روسيا، وان حرب كوسوفو شكلت الدليل الأكبر على ذلك. وباستثناء هذين النجاحين الكبيرين للمستشار شرودر فإن مراجعة متأنية لما أفرزته القمة على صعيد القضايا الأخرى تشير الى ان الرئاسة الالمانية لم تتمكن من تحقيق ما صرحت به واشتكت منه بصوت عال، خصوصاً اصرارها على تخفيض الاشتراك المالي الالماني في الاتحاد وإعادة توزيع نسب اشتراكات الاعضاء بشكل اكثر عدلاً. إن شيئاً من هذا لم يحدث على الإطلاق. كما ان المستشار شرودر لم يتمكن من تمرير مطالبة حكومته بتخفيض الدعم الكبير المقدم الى الزراعة والمزارعين الأوروبيين الذي يلتهم حوالى 40 في المئة من موازنة الاتحاد وتتحمل المانيا الجزء الأكبر منه. وهو اضطر للتراجع امام الرفض الفرنسي والاسباني، خاصة وان باريس ومدريد هما المستفيدتان الرئيسيتان من الدعم. أما في ما يتعلق ب"معاهدة العمالة" التي اقرتها قمة كولونيا لمكافحة البطالة التي تطال اليوم 16 مليون شخص في أوروبا فيمكن القول انها ولدت مشلولة الحركة والفعالية تقريباً بعد ان تراجعت الحكومة الالمانية عن خطها الاساسي في هذا الشأن الداعي الى تدخل الحكومات لمواجهة الأمر على الصعيد العام واقرار خطوات محددة لتأمين مجالات العمل في القارة دون ان يؤثر ذلك على الخطوات الداخلية لكل دولة. ويرى المراقبون ان بون خضعت على ما يبدو الى ضغوطات داخلية من جانب رجال الصناعة والاقتصاد الالمان ونقاباتهم التي استنكرت بشدة هذا التوجه ومحاولات التدخل في آليات سوق العمل مهددة باتخاذ خطوات مضادة. وسبب هذا التراجع انتقادات مباشرة وغير مباشرة من الحكومة الفرنسية الاشتراكية التي كانت تنسق مع نظيرتها الالمانية منذ البداية لإقرار المعاهدة التي كان يطالب بها التحالف الاشتراكي - الأخضر الالماني عندما كان في المعارضة. ورغم التراجع الألماني حصدت الحكومة الالمانية الانتقاد الشديد من أرباب العمل الألمان دون ان تجد في المقابل سوى تأييد جزئي من جانب النقابات العمالية التي لم تكن مرتاحة لإقرار معاهدة شكلية الطابع وعمومية الاتجاه. وفي مسألة "متاجر البضائع الحرة" ديوتي فري شوبس لم تتمكن الرئاسة الالمانية من منع صدور قرار بإلغاء هذه المتاجر المعروفة والموجودة في المطارات وفي البواخر وعلى حدود عدد من الدول حيث تباع دون ضرائب جمركية. وأعلن المسؤولون عن هذا القطاع في المانيا ان الاغلاق سيؤدي الى فقدان 140 ألف موظف وعامل لموارد رزقهم. وفي المؤتمر الصحافي الختامي للقمة اعترف شرودر انه فشل في اقناع الاعضاء الآخرين بمعاملة تركيا في القمة التالية التي ستعقد في هلسنكي على قدم المساواة مع الدول الأوروبية الاخرى المرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي بعد تسلمه رسالة في هذا الصدد من رئيس الحكومة التركي بولندا أجاويد. وطالب انقرة باسم القمة ان تتم محاكمة الزعيم الكردي عبدالله أوجلان حسب العرف الأوروبي.