شيع لبنان أمس القضاة الأربعة الذين سقطوا في قصر العدل في صيدا، وسط حداد عام وإقفال شمل قصور العدل والمحاكم والجامعات والمدارس، ومشاركة قطاعات أخرى عدة رمزياً فيه. وباشرت الأجهزة الأمنية والقضائية المختصة اجراءاتها لمعرفة أسباب الجريمة التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه، وكشف الفاعلين والقبض عليهم ومحاكمتهم. فقد قَصَر مجلس الوزراء جلسته عصر امس على البحث في جريمة صيدا معلقاً جدول اعماله الى الجلسة المقبلة، على ما أعلن رئيس الحكومة سليم الحص الذي بقي امس على اتصال مستمر بالاجهزة المعنية للوقوف على آخر المعلومات المتعلقة بالجريمة. وأعطى توجيهاته "بضرورة العمل السريع لمعرفة اسباب الجريمة البشعة وملابساتها ودوافعها والقبض على المجرمين الذين نفذوها لينالوا العقاب الذي يستحقونه". واعتبر رئيس المجلس النيابي نبيه بري هذه الجريمة "غريبة عن طبيعة اللبنانيين، وخصوصاً عن الجنوب وصيدا، لكنها، ويا للاسف، ملتصقة بما يخطط ضد الجنوب وأهله وهم يعيشون عرس جزين". وأضاف "يقتل هؤلاء القضاة مرتين، اذا لم يكتشف القتلة ليس لإحقاق العدالة والاقتصاص من الجناة فحسب، بل ليتأكد كل لبناني كم هي وحدته الوطنية مستهدفة ولو من خلال نزيف القاضي ونجيعه". وفي أول خطوة قضائية في التحقيق أوقفت النيابة العامة العسكرية المسؤولين عن حراسة قصر العدل في صيدا رهن التحقيق. وسطّر مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي نصري لحود استنابات قضائية الى كل الاجهزة الامنية للبحث والتحري عن الفاعلين وسوقهم مخفورين فور العثور عليهم وبيان هوياتهم كاملة ومكان اقامتهم وإيداعه النتيجة في اسرع وقت ممكن. وكلّف لحود الاطباء الشرعيين معاينة الجرحى والجثث وتنظيم تقارير عن الاصابات، والادلة أخذ البصمات عن الاسلحة المتروكة في مكان الجريمة والكشف على قاعة المحكمة والتقاط الصور اللازمة ووضع تقرير بنتيجة اعمالها. وعلمت "الحياة" من مصادر أمنية ان رشاشي الكلاشينكوف وقاذفة الصواريخ "لاو" التي خلفها الجناة في مسرح الجريمة، وجدت عليها كتابة "فتح - الإنتفاضة"، معتبرة انها وضعت ل"التمويه". وأكد محافظ الجنوب فيصل الصايغ ان "الاجهزة الامنية تقوم بدورها لكشف الفاعلين وان مجلس الامن الفرعي في حال انعقاد دائم" داعياً الى "انتظار نتائج التحقيقات". وكشفت مصادر أمنية في صيدا ان الذين نفذوا الهجوم اكثر من اثنين. وأشارت الى ان الاجهزة الامنية وضعت رسماً تقريبياً لأحد المهاجمين بناء على معلومات شاهد عيان. وتكتمت الاجهزة الامنية على ما توصلت اليه التحقيقات حتى الآن حفاظاً على سريتها. التشييع ومنذ ساعات الصباح الاولى غصت باحة مستشفى حمود في صيدا حيث كانت وضعت جثث القضاة الاربعة حسن عثمان وعاصم أبو ضاهر ووليد هرموش وعماد شهاب بالشخصيات الرسمية والسياسية والروحية والوفود، تقدمها ممثل رئيس الجمهورية إميل لحود وزير العدل جوزف شاول الذي منح الشهداء الاربعة باسمه أوسمة الأرز من رتبة كومندور لعثمان، ومن رتبة ضابط للثلاثة الآخرين، في حين مثّل رئيس المجلس النيابي النائب شاكر أبو سليمان ورئيس الحكومة الوزير أنور الخليل. وانطلق موكب تشييع عثمان من المستشفى نحو العاشرة تتقدمه أكاليل كتبت عليها عبارة "لبنان سينتقم لعدالته" بينها إكليل باسم الرئيس لحود. ووضع في سيارة تابعة لدار الافتاء الاسلامية في صيدا. وتقدم المشاركين في التشييع النواب عبداللطيف الزين ومحمد رعد وبهية الحريري ومفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين ومفتي الزهراني الشيخ محمد عسيران وراعي ابرشية صيدا ودير القمر للروم الكاثوليك المطران جورج كويتر ونقيب المحامين أنطوان قليموس والقاضي محمد حسن الأمين ومحافظ الجنوب فيصل الصايغ وشخصيات سياسية وروحية وعسكرية ونقابية وحشد من القضاة والمحامين وأبناء المدينة. وجاب الموكب الشارع الرئيسي للمدينة حيث اتخذت وحدات من الجيش اللبناني اجراءات امنية مشددة وصولاً الى قصر العدل حيث كان في استقباله زملاؤه القضاة والمحامون. فحملوا الجثمان على الأكف وأدخل الباحة الداخلية ثم قاعة المحكمة التي وقعت فيها المجزرة. ووضع النعش فوق القوس على طاولة الرئاسة حيث ترأس جلسته الاخيرة. وتليت الفاتحة على روحه وارتفعت التكبيرات وأطلق المحامون شعارات دعت الى الاقتصاص من القتلة. بعد ذلك نقل الجثمان الى بلدته الزعرورية في إقليم الخروب التي غصّت بالوفود الرسمية والوزارية والنيابية والقضائية حيث ووري وزميله القاضي بوضاهر الذي نقل جثمانه ليل اول من امس من المستشفى الى منزله. وتقبّل الرئيس الحص التعازي الى جانب عائلتي الفقيدين، مؤكداً ان "الجريمة لن تمر من دون عقاب". أما القاضي شهاب فانطلق موكب تشييعه من صيدا الى بلدته حاصبيا عبر معبر كفرتبنيت برفقة مندوب من الصليب الحمر الدولي عمل على تسهيل مروره داخل المنطقة المحتلة. وفي السمقانية الشوف ووري القاضي وليد هرموش بعدما شيّع في موكب حاشد جاب شوارع البلدة. وبين الذين زاروا الزعرورية والسمقانية للتعزية رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. ويتقبل وزير العدل ومجلس القضاء الاعلى التعازي السبت المقبل في القاعة الكبرى لمحكمة التمييز في قصر العدل في بيروت. ورأى مجلس شورى الدولة في الموقف الصادر عن مجلس القضاء الاعلى في شأن الجريمة "تعبيراً عن موقف السلطة القضائية بجهاتها كافة". وقرر التزام مضمونه كاملاً وخصوصاً تعليق العمل القضائي. وكانت نقابتا المحامين في بيروت والشمال دعتا الى تعليق العمل على مدى ثلاثة ايام. ووصف النقيب قليموس الجريمة بأنها "كارثة على الوطن، لكنها لن تنال من منعة القضاء ولا من جرأة القضاة" معتبراً انها "عملية خطرة تهدف الى زعزعة الوضع الامني والثقة بالقضاء". وأعلن نقيب محامي الشمال رشيد درباس ان "القضاء لن يخضع للارهاب". ردود فعل وقوبلت الجريمة باستنكار واسع من وزراء ونواب وشخصيات وبدعوات الى الكشف على الفاعلين ومعاقبتهم. وندد الرئيس السابق شارل حلو بالجريمة "التي هي من البشاعة والوحشية، بحيث لم يصب لبنان في تاريخه الحديث بأفدح وأفظع منها". وطالب بأن "ينال المجرمون اقصى العقاب" متضرعاً الى الله ان "يحفظ وطننا ليواصل مسيرة الامن والاستقرار، بقيادة رئيس البلاد، في اجواء المحبة والاخوة والسلام". وقال مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني ان "الجريمة سابقة خطرة هزت البلاد لتجرؤها على الجسم القضائي الذي يحرص على العدالة في الوطن". وتوجه بتعازيه الى ذوي الضحايا والجسم القضائي، وقال "لنا ملء الثقة بجميع المسؤولين للعمل على صون القضاء وكل مؤسات البلاد، وعلى معاقبة المجرمين". وندد رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الامام محمد مهدي شمس الدين بالجريمة، داعياً الى "وضع حد لها ولمثيلاتها، باعتقال الفاعلين ومعاقبتهم". وقال ان "ثقة اللبنانيين كبيرة بالقضاء وبنزاهة رجاله، وهي حصانتهم الدائمة". وقال رئيس الحكومة السابق النائب عمر كرامي، بعد لقائه الشيخ مهدي شمس الدين ان "الجريمة تستهدف الامن في لبنان، واذا لم يكن هناك امن فلا يمكن ان يكون هناك شيء آخر". ودعا الدولة، بعد اكتشاف مرتكبيها، الى "الضرب بيد من حديد ليكونوا عبرة لمن يعتبر". وقال مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو بعد لقائه الرئيس الحص "يجب الاعتراف بأن هناك تقصيراً كبيراً من جانب وزارة الداخلية التي كان عليها ان تفتح عينيها اكثر منذ الاحداث الاولى، وان تضع الحرس حول المحكمة التي تقوم بدور مهم جداً في المنطقة". ولاحظت "الاحزاب والقوى اللبنانية" في بيان بعد اجتماع في مقر "حركة أمل" في بيروت ان "الجريمة تذكر بجرائم العدو الاسرائيلي مع كل انسحاب من ارض الوطن، ومحاولة اسرائيلية واضحة للنيل من مسيرة الامن والاستقرار في البلاد التي تشكل السند الاساسي للمقاومة الباسلة وصمود اهلنا في مواجهة الاحتلال الصهيوني". وأشارت الى ان "تنفيذ الجريمة تزامن مع الاحتفالات التي تشهدها جزين بالنصر الكبير الذي احرزته المقاومة على العدو وعملائه، في محاولة لتبديد فرحة اللبنانيين به". ودعت الى دعم القضاء وتوفير كل الاجراءات الامنية لحمايته، والى انزال اشد العقوبات بالجناة. واعتبر مصدر مسؤول في "حزب الله" ان "الجريمة عدوان صارخ على لبنان حكومة وشعباً ومؤسسات، ولا يمكن ان يرتكبها الا مرتزقة تدعمهم جهات معادية للبنان وللسلم الاهلي ولكل انجازات المقاومة". وأضاف ان "هذا الامر يستدعي استنفاراً رسمياً وشعبياً لتحديد الفاعلين ومن يقف وراءهم لمعاقبتهم واتخاذ الاجراءات المناسبة". ودعا رئيس "التجمع للجمهورية" الدكتور ألبير مخيبر الى ازالة "الجزر الامنية" في لبنان "التي يستوطي من فيها حيط الدولة". وتوقف العمل رمزياً في مصرف لبنان والمصارف وغرف التجارة والصناعة ومطار بيروت ومرفأها، وعدّلت وسائل الاعلام المرئية والمسموعة برامجها لتبث مكانها الموسيقى الكلاسيكية.