مر 76 يوماً، حتى كتابة هذه السطور، على ضربات متواصلة بالصواريخ والقنابل، استهدفت انحاء يوغوسلافيا، منذ بدء عمليات حلف شمال الأطلسي في 24 آذار مارس الماضي، وأصبحت نهايتها الكاملة مرهونة بدخول قوات دولية إلى الاقليم وبدء مرحلة جديدة اطلق عليها "إعادة الأوضاع إلى طبيعتها". وبعيداً عن التهديدات المتبادلة والتصريحات الإعلامية الرسمية، التي ينبغي التزام التحفظ عند الاعتماد عليها، فإن نظرة عامة إلى ما حصل خلال فترة الضربات، وفق ميزان العدل لما هو ظاهر، يمكن ان تقود إلى مدخل نحو مؤشرات ربح وخسارة الأطراف المتداخلة فيها. يذكر ان اوار الحرب يصيب عادة الساحة التي تدور فيها، ولهذا كلما ابتعدنا عن منطقة البلقان كان الضرر أقل بروزاً، حتى يكاد ينعدم إلى حد عدم الشعور به واقعياً في الولاياتالمتحدة مثلاً، باستثناء بلايين عدة من الدولارات التي تطلبها تنفيذ العمليات الجوية، وذلك في العرف الأميركي هو أهون الخسارة، ما دام الاقتصاد العالمي أصبح طوع الدولار الذي سجل ارتفاعاً بحدود 11 في المئة خلال فترة الحرب، بالنسبة إلى العملات الدولية الرئيسية. إلا أن المسلك الذي اتبعته الولاياتالمتحدة خلال الحرب، جعل غالبية حلفائها الأوروبيين في موضع الريب من فرض هيمنتها المطلقة عليهم، بأسلوب هو في منأى عن "المعايير الديموقراطية الأميركية والشرعية الدولية". كما أن صورتها العالمية اتسمت بالمكاييل المتنوعة حسب متطلبات مصالحها الذاتية بشكل ازداد وضوحاً. وتردد وصفها بصاحب "الهراوة" الذي يخشاه الآخرون بمشاعر المقت، ويبدو ان الإدارة الأميركية غير ابهة لذلك في عالم أصبحت "القوة" هي الحكم فيه. واعتبر محللون التصرف الأميركي "اسلوب ألعاب النار بمصير العالم"، لأنه لا يمكن ان تستمر الأوضاع العالمية على هذا النحو حسب "قانون العولمة" التي لا يستبعد أن تواجه برد فعل قد يكون أخطر من "الحرب الباردة" السابقة، ومن الغباء المراهنة على أن الأمور الروسية ستبقى في محيط دائرة الرئيس بوريس يلتسن والملياردير بوريس بيريزوفسكي والاقتصاد المكبل بالاغلال الأجنبية، وينطبق الأمر الروسي على دول الاتحاد الأوروبي والصين والهند وغيرها بما في ذلك دول إسلامية. وازاء هذه المؤشرات، سعت الولاياتالمتحدة إلى استغلال الأزمات البلقانية عموماً لتحقيق ما يمكنها من مكاسب على حساب الظروف الدولية غير المستقرة، والصدمة الشديدة الناتجة عن انهيار الاتحاد السوفياتي والمكاسب التي توافرت لها في أعقاب التخلص من حواجز الحرب الباردة. أما الحلف الأطلسي كقوة عسكرية، فلا يمكن ادخاله في موازين الربح والخسارة، كطرف مستقل، لأنه في الحقيقة آلة مكملة للذراع الأميركية الطويلة في تأديب الذين لا يعرفون مكمن "الولاء المطلوب" أو يحاولون الافلات من الطوق، والسؤال: إلى متى تستطيع الولاياتالمتحدة استخدام الأطلسي كقوة عسكرية ملحقة بها، بما يملكه من صواريخ وقنابل في فرض نظامها العالمي الجديد، من طريق ازهاق الأرواح، من دون تفريق بين عسكري ومدني؟ ويرى خبراء مستقلون، ان تطورات الحرب اليوغوسلافية وضعت مستقبل الحلف الأطلسي أمام "سيناريوهات" عدة، منها التحلل والتفكك في فترة حوالى 10 سنوات، لأن الولاياتالمتحدة أحاطت دول الحلف بشروطها، ولم تترك لحلفائها أي دور سواء في اتخاذ القرار أو تحديد السياسات، بما في ذلك المصير الاستراتيجي الجديد ومستقبل القواعد الأميركية في الأراضي الأوروبية، إذ أن قمة واشنطن في الذكرى الخمسين لإنشاء الحلف مثلت بداية النهاية لاستمرارية الحلف في وضعه التقليدي. وبالنسبة إلى الأوروبيين، فإن ربحهم تركز في وقاية بلدانهم من موجة نزوح لا تقل عن مليون شخص، طالما اعتبروها عبئاً ينبغي تجنبه بكل الوسائل الممكنة، خصوصاً أن بلدانهم لا تزال تحاول التخلص من آلاف اللاجئين الذين لم يغادروا أراضيها، إضافة إلى العدد الكبير من الألبان الذين نزحوا خلال السنوات العشر الأخيرة، لكنه في مقابل ذلك ظهرت أوروبا فاقدة مساحات واسعة من هيبتها الدولية، وبدت إما طيعة وراء ما تريده أميركا، كما هي حال الحكومة البريطانية، أو متذمرة فرض عليها موقف التفكير بالخلاص من الطوق المفروض عليها. وهنا يشير المراقبون إلى أن الموقف الأوروبي في مجال الحرب في يوغوسلافيا ذهب أحياناً إلى حد التهديد بتفكك التحالف الغربي، وتصاعدت دعوات لتجميد الدور الأميركي في مسائل حفظ الأمن وتوفير الاستقرار داخل القارة الأوروبية، من خلال انشاء بنية أوروبية عسكرية دفاعية مستقلة تحل محل الحلف الأطلسي، تشارك فيها دول من داخل الحلف وخارجه. وفسرت دوائر أميركية هذه الخطوة بأن القارة الأوروبية، بالإضافة إلى كونها قوة اقتصادية دولية لا يستهان بها، خصوصاً بعد اعتماد دولها الرئيسية لليورو عملة موحدة، ستتحول إلى قوة عسكرية جماعية موازية، وربما منافسة، للحلف الأطلسي. واتسمت ردود الفعل الأميركية الرسمية بالترحيب الحذر والتنبيه من احتمال اضعاف الحلف الأطلسي، وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية جيمس روبن "نحن نرحب برغبة حلفائنا وأصدقائنا الأوروبيين في تعزيز قدراتهم العسكرية المشتركة من أجل المساهمة في عمليات الحلف أو منفردة من دون مشاركته"، إلا أنه عكس تحفظ حكومته، مضيفاً "ان القوة العسكرية الأوروبية المقترحة يجب أن تتشكل بطريقة تساهم في تعزيز الأمن في أوروبا وداخل الحلف وليس اضعافه". وأوضح ان الحكومة الأميركية "تدعم الخطة الأوروبية طالما أنها لا تؤدي إلى الانفصال عن الأطلسي أو تشكل ازدواجية أو تتخذ مواقف تفضيلية ازاء الحلف". وظهرت روسيا، بالشكل الواضح الذي اتسمت به في عهد بوريس يلتسن، دولة "مخمورة مريضة" من دون قيادة، مرتاحة لما تتلقاه من اذلال، يحكمها اشخاص اما فقدوا ارتباطهم بمصلحة بلدهم وتهمهم مناصبهم أو توجههم حفنات الدولارات، وهي بذلك محكومة على أمرها بما يملى عليها، وفقدت حتى ثقة حلفائها التاريخيين، وإلى حد لم يتوان الصرب عن الحديث علناً بأن ما صدر عنها من وعود وصراخ لم يكن سوى "توريط" يوغوسلافيا في ولوج صراع ثم تركها لوحدها عملياً، وتردد في بلغراد بأن الاتكال على روسيا هو "اعتماد على عصا القصبة المرضوضة". ووضع الموقف الروسي يوغوسلافيا أمام خيارين: اما المضي في التعنت وتلقي المزيد من الدمار، أو انقاذ ما تبقى والاتجاه نحو الدخول في الفلك الأميركي، على الأقل في المرحلة الراهنة، من حيث يشعر الروس "وليس روسيا" بأنهم يتحملون تبعة ما حصل، وهو برز في تصاعد الحقد حتى بين العسكريين الموالين ليلتسن وتشيرنوميردين. وتساءلت وسائل الاعلام في بلغراد عن جدوى الضجة الروسية، ما دامت لم تسفر إلا عن فرض التزام فعلي على يوغوسلافيا أمام الحلف الأطلسي، وفي الوقت نفسه خسرت روسيا موقعها في البلقان ولم يعد لأي من الطرفين، بلغراد والأطلسي، من حاجة إليها واقعياً، وسواء شاركت روسيا بقوات حفظ السلام أم لا، فإن واشنطن هي التي سترتب أمور البلقان بالشكل الذي ترى أنه يناسب مصالحها الاستراتيجية. وفي هذه الأجواء الصعبة، التي اثبت الصرب فيها كثيراً من التحمل والصمود، فإنه لم يبق أمامهم غير الاسراع بالموافقة على خطة كانت إلى وقت قريب مرفوضة منهم، وإن ظهرت أهون مما عرض في رامبوييه بفرنسا، وذلك من أجل صيانة ما يمكن الحفاظ عليه من الأهداف "المصيرية" الخاصة ببقاء كوسوفو داخل الأرض الصربية، التي جرى من أجلها القبول بخوض حرب غير تقليدية اتسمت ب"المغامرة". وعادت يوغوسلافيا، على رغم ما استطاعت الحفاظ عليه، عشر سنوات على الأقل إلى الوراء في تطورها الاقتصادي، وربما كان هو المقصود أصلاً من الغارات الأميركية، لأن التوازن المتوخى بين دول البلقان كان يقتضي جعل حال يوغوسلافيا في منزلة معادلة لجيرانها في المجر ورومانيا وبلغاريا، الذين دخلوا في "حلبة المجتمع الدولي". أما الألبان، فلا يزالون حتى الآن الخاسر الأكبر، إذ فقدوا كل أملاكهم، وشردوا من ديارهم، ومن الصعب معرفة مصيرهم، في وقت تشير تجارب البلقان إلى أن الذي يترك وطنه مرغماً، من النادر أن يعو إليه مخيّراً. وظهر الألبان جماعات متفرقة متشاحنة بسبب توجيهات الولاياتالمتحدة وأوروبا، وهو ما زاد من صراعاتها الداخلية، عندما وجدت الولاياتالمتحدة ان إبراهيم روغوفا "يسلك نهجاً عقلانياً" مدعوماً من دول أوروبية، فاحتضنت "جيش تحرير كوسوفو" من خلال "الشاب الماوي" هاشم ثاتشي وجعلته رئيس حكومة موقتة مقرها في البانيا، غير آبهة بوجود حكومة موقتة لألبان كوسوفو منذ سبع سنوات متنقلة بين دول أوروبية برئاسة بويار بوكوشي، القيادي في حزب الاتحاد الديموقراطي لألبان كوسوفو بزعامة روغوفا. واللافت عدم ورود كلمة "ألبان" اطلاقاً في خطة السلام الدولية التي وافقت بلغراد عليها، باستثناء إشارة في آخر فقرة 8 بعبارة "فضلاً عن نزع السلاح من جيش تحرير كوسوفو" ما يعني أن "المجتمع الدولي" لا يعتبر "الألبان" في أزمة، وإنما المشكلة تخص ترتيب أوضاع كوسوفو ضمن "مبادئ سيادة أراضي جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية وباقي دول المنطقة" كما ورد في الخطة. ويبقى ما يخص منطقة البلقان، الذي يمكن استنتاجه من كلمات طالما رددها الرئيس المقدوني كيرو غليغوروف "استقلال كوسوفو يشكل خطراً يهدد مقدونيا وغيرها من دول البلقان، إذ أن كل دول المنطقة لديها كوسوفو في داخلها وعلى حدودها".