كانت طهران هذا الاسبوع أشبه بمحطة سياسية مركزية بالنسبة لزوارها الرسميين الذين استقبلهم الرئيس سيد محمد خاتمي قبل سفره المرتقب يوم الاثنين المقبل الى سورية والسعودية وقطر. وكما ان زيارة الامير سلطان بن عبدالعزيز لايران تعتبر الاولى منذ ثورة 1979… كذلك تعتبر جولة الرئيس خاتمي الاولى لأي بلد عربي منذ توليه الحكم قبل 21 شهراً تقريباً. من هنا يعير المراقبون اهمية خاصة للمحادثات التي اجراها النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران السعودي، باعتبارها تمثل الاستمرار لنمط العلاقات التي ارسيت دعائمها في مؤتمر القمة الاسلامي الذي عقد في طهران كانون الاول/ ديسمبر 1997، أي المؤتمر الذي شارك فيه الرؤساء: حافظ الأسد والياس الهراوي وعمر البشير وولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ونائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان. مع بداية الجولة الى المغرب العربي اعتبرت زيارة الأمير سلطان لتونس اول خطوة باتجاه تطوير سياسة الانفتاح التي اقرتها دول مجلس التعاون الخليجي بعد مرور ثمانية اعوام على انقسام العالم العربي حول كيفية التعاطي مع العراق إثر اجتياح الكويت. وبما ان استحقاقات المرحلة الاخيرة من هذا القرن تفرض التمسك بموقف عربي موحد، فقد شاركت السعودية بواسطة سفيرها الأمير بندر بن سلطان بتذليل الصعوبات القائمة في وجه ليبيا وذلك بهدف إيجاد مخرج لمشكلة "لوكربي". وكان من نتيجة نجاح هذه المحاولة ان اعرب العقيد معمر القذافي عن امتنانه لدور الوساطة الذي لعبته المملكة. كما شكر الزعيم مانديلا على مساهمته في تحسين اجواء التعامل مع هذا الموضوع بصورة اكثر جدية واقل حساسية. وفي ضوء هذا التوجه، قام الأمير سلطان بزيارة مفاجئة للجزائر نقل خلالها تهنئة القيادة السعودية للرئيس بوتفليقة الذي وصف الزيارة بأنها "لفتة طيبة لا تُنسى"، خصوصاً وان الأمير سلطان كان اول شخصية تزور الجزائر لتهنئة الرئيس الجديد. ويتوقع المراقبون ان تلعب الرياض دوراً نافذاً لحل الاشكالات العالقة بين المغرب والجزائر بسبب مستقبل الصحراء الغربية. ويبدو انها لمست لدى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة رغبة في تسوية هذه الازمة، على ان تناقش نقاط التفاهم في قمة منظمة الوحدة الافريقية التي تستضيفها الجزائر منتصف تموز يوليو المقبل. ومثل هذا التحول في علاقات دول المغرب العربي بعضها مع بعض، يمكن ان يمهد لالغاء العزلة الدولية عن ليبيا والجزائر، ويهيئ لهما بالتعاون مع تونس والمغرب، فرص التعاون المثمر لخلق كتلة عربية قادرة على لعب دور مؤثر في مستقبل المنطقة. المحادثات في تونس مع الرئيس زين العابدين بن علي والوزير الاول الدكتور حامد القروي، تميزت بالمصارحة وحرارة الاستقبال. ولقد قدمت لها الحكومة التونسية قبل وصول الامير سلطان ببيان مسهب وصف السعودية بأنها تأتي في مقام متقدم على جميع الدول العربية بالنسبة لحجم الاستثمارات التي تجاوزت نصف بليون دولار. ومن منطلق تطوير التعاون الاقتصادي - التجاري وتعزيز العلاقات الثنائية على مختلف المستويات، جرى بحث موضوع فتح السوق السعودية امام العمالة التونسية، وتطوير الاعمال المشتركة عبر "الوكالة التونسية للتعاون الفني" و"الصندوق السعودي للتنمية". وكان من الطبيعي ان تتناول المحادثات الاوضاع العربية الراهنة بما فيها: موضوع تعزيز التضامن العربي عبر الجامعة والقمة المؤجلة، واحتمالات انقاذ عملية السلام المتعثرة. واتفق الجانبان على اجراء مناورات عسكرية مشتركة على ان يتم التنسيق بين القيادتين السعودية والتونسية على تحديد اهدافها ومكانها وتوقيتها. ومثل هذا التنسيق على المستوى العسكري يمكن ان يقرب مسافة الاهتمام الأمني بين دول المغرب العربي ودول مجلس التعاون الخليجي على نحو يعزز جوانب التنمية ويطال المصالح الاقتصادية. زيارة الأمير سلطان بن عبدالعزيز لطهران تحمل دلالات اخرى انطلاقاً من اتفاقية التعاون السعودي - الايراني التي جرى توقيعها كمحصلة نهائية لاعادة العلاقات الديبلوماسبية بين البلدين عام 1991. ومع ان التوقيع جرى في ظل مقررات المؤتمر الاسلامي الذي عقد في طهران عام 1997… الا ان الاتفاقية اضافت الى طبيعة العلاقات الاقتصادية بعداً سياسياً اعتبره المراقبون نقلة نوعية تسهم في اعادة تشكيل اهتمامات دول منطقة الخليج بعيداً عن الشك والخوف والحذر. وكما لحظت اتفاقية التعاون السعودي - الايراني السابقة تعديلاً اساسياً في نمط العلاقات، واستجابة ايران في عهد خاتمي الى تجاوز نقاط الخلافات العالقة… كذلك لحظ نائب الرئيس الايراني حسن حبيبي: "ان الزيارة السابقة لولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز وزيارة الأمير سلطان شكلتا منعطفاً مهماً في سبيل رفع مستوى العلاقات بما يحقق مصلحة البلدين ويعود بالخير على المنطقة والعالم الاسلامي". المحادثات مع مرشد الجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، ورئيس الجمهورية سيد محمد خاتمي، ووزير الخارجية كمال خرازي ووزير الدفاع الاميرال علي شمخاني… تميزت بالمصارحة وبعرض نقاط التفاهم بين القيادتين الممثلتين لأهم مذهبين في الاسلام… ولأهم دولتين مصدرتين للنفط في منظمة "اوبك". وكان من الطبيعي ان تحتل مسألة الامن الاقليمي حيزاً كبيراً من المحادثات، خصوصاً وان سياسة الانفتاح التي ارسى دعائمها الرئيس خاتمي ألغت 17 سنة من التوتر، ومهدت للانسجام الكامل بين ايران وجاراتها لولا مشكلة جزر الامارات. ومع ان هذه المشكلة تعتبر من الاولويات في مجال توحيد المواقف، الا ان موقف السعودية منها كان واضحاً، سواء في اطار دول اعلان دمشق ام في اطار الجامعة العربية التي ايدت الامارات في صورة مطلقة. وفي ضوء هذه السياسة المعلنة، شدد الأمير سلطان على ضرورة خلق جو من الثقة المتبادلة بين ايران وجاراتها، خصوصاً عندما تحدث المسؤولون عن دفاعاتهم وقالوا بأنها ستكون تحت تصرف الدول العربية لحماية المنطقة من الاخطار الخارجية. وكان واضحاً من خلال التصريح الذي ادلى به ل"الحياة" وزير الدفاع الايراني علي شمخاني، ووصفه لأهداف زيارة الامير سلطان والوفد المرافق له، بأنها معنية بارساء سياسة توحيد الاهداف والمواقف، وتحديد الخطوط العامة لخطة امنية في المنطقة. وكان بهذا الكلام يكمل ما ذكرته على لسانه "وكالة الانباء الايرانية" من ان الجمهورية الاسلامية على استعداد لتقديم قدراتها الدفاعية للمملكة في اطار بناء قوة دفاعية مشتركة تذود عن العالم الاسلامي. وربما شكلت هذه المسألة بالذات نقطة الاختلاف في احدى وجهات النظر على اعتبار ان الامير سلطان كان يلمح الى ضرورات التعاون الايجابي بطريقة مدروسة ومتأنية بحيث تكون المواقف الامنية منسجمة مع السياسة الاقليمية التي تعتمدها السعودية باعتبارها عضواً في مجلس التعاون الخليجي، وفي مجلس الدفاع العربي المشترك، وفي الجامعة العربية. لهذه الاسباب وسواها طالب الامير سلطان بتطوير مستويات التنسيق في ضوء التفاهم بين ايران وجميع دول المنطقة بحيث تجيء هذه الخطوة منسجمة مع المتغيرات التي يشهدها العالم، وما تتطلبه من مرونة وقدرة على تخطي نقاط الخلافات العالقة بين طهران وبعض جاراتها العربيات. ما عدا هذه النقطة التي اتفق الجانبان على تجاوزها، فإن البيان المشترك سيذاع من الرياض اثناء زيارة الرئيس خاتمي للسعودية الاسبوع المقبل. وتأتي هذه الزيارة استكمالاً للجولة الاولى التي يقوم بها الرئيس الايراني لكل من سورية وقطر. ومع ان سلفه الرئيس السابق رفسنجاني كان قد زار سورية عام 1991، الا ان زيارة خاتمي تعتبر الاولى لكل من السعودية وقطر يقوم بها رئيس ايراني منذ ثورة 1979. وبما انه تقرر ان تستضيف الدوحة المؤتمر الاسلامي عام 2000، فان خاتمي سيتشاور مع القطريين والسوريين والسعوديين حول تحديد البرنامج المطلوب لهذه المرحلة الحرجة. ويُستدل من مجمل التصاريح التي صدرت عن القيادات السياسية والروحية والعسكرية في ايران، ان المباحثات مع الأمير سلطان والوفد المرافق له غطت مختلف القضايا الساخنة، بدءاً بقرار منظمة "اوبك" خفض معدلات انتاج النفط… مروراً بأزمة الشرق الاوسط واحتلال اسرائيل لأراض عربية… وانتهاء بحرب البلقان وسياسة طالبان في افغانستان. واتفق الجانبان على ضرورة حل خلافات الحدود عبر الحوار المباشر، مع اهمية رفض الارهاب والتمييز في تعريفه عن حق الشعوب في تحرير ارضها من الاغتصاب والاحتلال. ومن المؤكد ان مسألة "طالبان" ستحتل موقعاً متقدماً في محادثات الأمير سلطان مع رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، خصوصاً وان المملكة لعبت دوراً اساسياً في اخراج القوات السوفياتية من افغانستان، وفي تعبئة روح المقاومة والجهاد بالتعاون مع اسلام آباد. وفي اشارة واضحة الى تطابق المواقف بين السعودية وايران، قال خاتمي: "ان التقارب بيننا سيشيع القلق لدى خصومنا ويجعلهم يشعرون بالضياع". ووصف زيارة الأمير بأنها الهدية الكبرى لايران، معتبراً ان العلاقات تطورت وترسخت اثناء انعقاد المؤتمر الاسلامي في طهران ومشاركة ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. ولفت الرئيس خاتمي الانتباه اثناء وصفه للأمير خالد بن سلطان بالتميز العسكري والفكري كدلالة على انه من قراء "الحياة" المدمنين. وهو بالفعل كذلك منذ نشرت له "الحياة" سلسلة مقالات سياسية وثقافية واجتماعية اعتبرت من افضل نتاجه الفكري بحيث انها جمعت في كتاب صدر عن "دار الجديد" للناشر لقمان محسن سليم. على الطرف الآخر من آسيا انهى أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز جولته الثانية لأربعة بلدان، مستكملاً بذلك جولة سابقة شملت اليابان. وكانت مناسبة لمراجعة القضايا ذات الاهتمام المشترك مع كبار المسؤولين في هونغ كونغوالصين وكوريا الجنوبية والفيليبين. وفي لقائه مع رئيس الدولة ونائبه ورئيس مجلس النواب ووزير الدفاع، اثنى الأمير سلمان على الجهود التي تقوم بها الصين لتحقيق زخم سياسي واقتصادي يمثل اضخم كتلة بشرية على الساحة الدولية. وعبّر وزير الدفاع الفريق اول تشي هاو تيان عن اعجابه بسياسة المملكة وبالدور الكبير الذي تقوم به في المحافظة على السلام في الشرق الاوسط. كذلك نوه الرئيس الفيليبيني جوزيف استرادا بالاهتمام الذي توليه السعودية للعمالة الفيليبينية، على اعتبار انها تشكل الجالية الثانية من حيث العدد بعد الجالية المصرية. وكان لهذا الاهتمام الأثر البالغ لدى الحكومة في مانيلا، خصوصاً وان زيارة الأمير سلمان كانت الاولى لأي مسؤول سعودي منذ اكثر من ثلاثين سنة. في ضوء هذاالتحرك السياسي المتواصل، ترى السعودية ان اسرائيل تركز في السنوات الاخيرة على تمتين علاقاتها مع اليابان والصين والهند في محاولة دؤوبة لفتح منافذ اقتصادية على آسيا الوسطى والمحيط الهندي وافريقيا الشرقية. وكما تخلت عن بريطانيا التي اوجدتها وسعت وراء الولاياتالمتحدة التي حمتها، تحاول اسرائيل الآن توثيق علاقاتها بآسيا وبلاد الرياح الموسمية لانها تشكل اضخم احتياطي بشري يزداد بارقام خيالية. ويتوقع شارون ان تكون هذه البلدان المنافسة الاولى للولايات المتحدة خلال القرن المقبل. وبحسب وصية بن غوريون، فان اسرائيل يجب ان تضمن حمايتها باقامة علاقات وثيقة مع اقوى قوة في العالم. لهذه الاسباب وسواها يقتضي على الدول العربية رسم استراتيجية مستقبلية تمنع على اسرائيل اجراء هذا الاختراق الذي يؤثر بشكل مباشر على منطقة الخليج باعتبارها المنفذ الطبيعي نحو آسيا. * كاتب وصحافي لبناني.