في مطلع الحرب اللبنانية، وتحديداً خلال صيف 1976، قام وفد من "الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية" كانت عبارة عن التحالف القائم حينذاك بين القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية بزيارة للجزائر بهدف شرح تطورات الاحداث الجارية في لبنان. وقبل اللقاء المقرر مع الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي يكون في العادة تتويجاً لهذا النوع من الزيارات، يقتضي البروتوكول بعقد لقاءات تمهيدية مع المسؤولين في حزب "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" وبعض الوزراء المعنيين بشؤون العلاقات الخارجية وحركات التحرر. في هذا السياق، تم اللقاء مع وزير الخارجية آنذاك عبدالعزيز بوتفليقة، الذي كان محاطاً بمحمد الشريف مساعدية، ومحمد الصالح اليحياوي والعقيد سليمان هوفمان. وإثر الانتهاء من شرح الأوضاع والمناقشات بشأنها وكيفية تنسيق المواقف والاستماع لوجهات نظر كل من الجانبين، توجه احد اعضاء الوفد بسؤال استيضاحي للوزير بوتفليقة فيه نوع من التمني بإيجاد حل سريع وعادل لمشكلة الصحراء الغربية في اطار الاخوة المغاربية خصوصاً وان الامة العربية - حسب رأي عضو الوفد المذكور - بغنى عن "دويلات ميكروسكوبية" يزيد نشؤها من هموم هذه الأمة ومن مشاكلها تعقيداً. فجأة، تبدلت ملامح بوتفليقة ورفاقه وبدت سمات الغضب تظهر على وجوههم، في حين احمرّ وجه طارح السؤال الذي حاول تبديد الاجواء بابتسامة صفراء تخللها النظر نحو زملائه المحرجين. ونظر بوتفليقة الى محدثه قائلاً باللهجة العامية الجزائرية: "شوف يا خويا، هادي البوليزاريو ستبقى الى الأبد الحصوة في الحذاء المغربي"، بمعنى آخر، فإن "جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" بقدها وقديدها ليست في نظر النظام الجزائري سوى أداة تستخدمها لاستنزاف قدرات المملكة المغربية في الصراع الاقليمي الدائر بينهما. ولم يلبث بوتفليقة ان انتقل بسرعة ومن دون مبرر للحديث عن ليبيا ورئيسها الذي يتوهم بأنه يلعب دوراً قيادياً في العالم العربي بمجرد انه يملك الامكانات المادية ويمول العديد من وسائل الاعلام العربية، مضيفاً انه ينبغي عليه ألا يتناسى تاريخ وجغرافيا وتضحيات الآخرين، كما عليه ان يدرك في الوقت نفسه ابعاد القدرات الفعلية التي يملكها اضافة لعدد سكان بلاده. وختم بوتفليقة "مداخلته - الدرس" بالقول: "انه لا يكفي ان يملك رئيس دولة ما المال ليصبح قائداً وزعيماً بين ليلة وضحاها". اليوم، وبعد أكثر من 22 عاماً، تغيرت معها المعطيات الدولية بشكل جذري، يعود بوتفليقة من خلال خطاباته وتصريحاته التي أدلى بها في جولاته الانتخابية للتذكير "بثوابته"، مستحثاً المشاعر الوطنية عبر التركيز على ضرورة قيام الجزائر "باستعادة دورها كقوة اقليمية رائدة"، مستفزاً من خلال هذا الشعار جيرانه، لا سيما تونس والمغرب، الذين، حسب قوله، يسيئون معاملتهم لاخوانهم الجزائريين. ومنتقداً من جهة اخرى وبذكاء "الانتصار" الذي حققته ليبيا في قضية لوكربي والتهكم المغلف على طموحاتها الجديدة في افريقيا. ولم تفلت فرنسا هي الاخرى من سهامه، الموجهة للاستهلاك المحلي، عندما تعمد التذكير بأن الجزائر لم تشف بعد من جروح خلّفتها 120 سنة من الاستعمار، وبأنه لا يسمح لها بالتدخل في شؤون بلاده وبأنه سوف يعمد الى تنويع الشراكات مع الدول الغربية وفق المصالح الوطنية. الا ان الأهم والاخطر في طروحات بوتفليقة هو الشق الأول المتعلق باستعادة الدور "كقوة اقليمية رائدة" وليس الشق الثاني المتعلق بفرنسا. ذلك لأن العلاقات مع هذا البلد كانت على الدوام مثل اسنان المنشار، لكنها كانت تنتهي في كل مرة بضمان مصالح هذه الدولة الكبرى واستثماراتها في كل المجالات بما في ذلك قطاع الهيدروكربورات، الامر الذي جعلها في طليعة المستوردين والمصدرين من والى بلد المليون شهيد. لذلك فإن جواً من التخوف والشكوك بات يسيطر منذ اللحظة الأولى لوصول بوتفليقة لسدة الرئاسة على مخيلات المسؤولين والمحللين السياسيين في مختلف دول المغرب العربي بما فيها الجزائر. فالغمز واللمز من قنوات الجيران من دون استثناء يعبر بشكل ام بآخر عن حقيقة النيات المستقبلية للرئيس الجديد حيال مستقبل وطبيعة العلاقات داخل اتحاد دول المغرب العربي، خصوصاً وان بوتفليقة هو من نوع الذي يقصد عادة ما يقول. فهو بحسب رأي اصدقائه قبل خصومه لا يزال يعيش في امجاد الماضي الغابر ولم يقتنع حتى الآن بأن المرحلة الحالية وأحداثها ليست نفسها، كما ان الجزائر لم تعد جزائر ما بعد الاستقلال. وتطلعات الشعب حيال الاستقرار والعيش الافضل والسلم الاهلي هي مختلفة تماماً عما كانت عليه منذ اكثر من عقدين. والأهم من كل ذلك ايضاً، انه ليس هواري بومدين. فالعودة اذن لاستفزاز "الجيران - الاخوة" ومحاولة تعبئة الشعب الجزائري في هذا الاتجاه هو مناقض لروحية وأهداف "اتحاد دول المغرب العربي" الذي من المفترض، وربما من غير المتوقع، ان يعقد الاجتماع الأول له قريباً، وبعد طول انتظار برئاسة الجزائر. كما ان هذه التعبئة من شأنها اذا لم توضع لها ضوابط تمنعها من الخروج عن الحدود "الاعلامية" المرسومة لها، ان تؤسس لحروب مقبلة في منطقة المغرب العربي لا يدرك احد مداها ولا نتائجها كون جميع العناصر المهيئة للانفجار مثل: معدلات البطالة المرتفعة، والتزايد السكاني الملفت، وتدني العائدات، وتراجع القوة الشرائية للمواطن والتجاوز المقلق لخط الفقر، والشروط القاسية المترافقة مع الدخول في اقتصاد السوق وتنامي الرشوة وتعزيز اوضاع شبكات "الترابندو" السوق السوداء، اضافة الى الوجود الثابت للتيارات الدينية المتطرفة، باتت موجودة ومؤثرة في صنع القرارات السياسية. لذلك فمن الضرورة بمكان ان يسارع المتنورون داخل النظام الجزائري للجم هذه التطلعات الخطيرة وتعقيل المندفعين وراء فكرة "استعادة الجزائر لدورها كقوة اقليمية رائدة". على أية حال، فليس من المقبول ولا حتى من زاوية الواقعية السياسية سد الأبواب امام المبادرات المتكررة التي قام بها الوزير الأول في حكومة التناوب بالمغرب، عبدالرحمن اليوسفي باتجاه الجزائر خصوصاً لناحية فتح الحدود والمساهمة في ايجاد حل لمشكلة الصحراء الغربية. كما انه من غير المنطق ان يكون الرد بمطالبة الرباط بالاعتذار وبالاعلان عن رغبة بوتفليقة بتحويل الصحراء الغربية الى كاليفورنيا في الوقت الذي لم تتم فيه بعد عملية الاستفتاء التي ستجرى باشراف الأممالمتحدة. كما لا يمكن ايضاً تفسير اتهاماته لتونس بخصوص سوء معاملة الجزائريين على المراكز الحدودية في الوقت الذي تستقبل فيه تونس سنوياً حوالى مليون ونصف مليون جزائري. وهنالك المئات من الطلاب الجزائريين يتابعون دراساتهم العليا في الكليات والجامعات التونسية، حتى ان أولاد بعض كبار المسؤولين في الجزائر يدرسون في المعاهد الثانوية. الى ذلك فتحت تونس ابوابها لرجال الاعمال الجزائريين الذين لم يتمكنوا من الحصول على تأشيرات دخول لبعض الدول الأوروبية والذين يمارسون اليوم نشاطاتهم في اطار العمليات التجارية المثلثة الاتجاهات. انطلاقاً من هذا الواقع، يمكن القول بأن تصريحات بوتفليقة عشية انتخابه ما هي إلا إعداد مسبق لتسخين الاجواء مع جيران الجزائر. يبقى السؤال: هل ان بوتفليقة خارج الحكم سيكون هو نفسه بعد تسلمه السلطات؟ فإذا ما حاولنا الاجابة عن هذا السؤال من وجهة نظر سياسية بحتة، نجد ان بوتفليقة كان يستخدم بإستمرار عبارتين رئيسيتين خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه بالرئاسة: الاولى وتتلخص بعظمة وقوة الدولة، اما الثانية فاختصرت بالاستقلال الوطني. فالقوة بالنسبة اليه والمغروسة في عقله وفي ثقافته السياسية وبالنسبة ايضاً للذين ساعدوه على الوصول الى قمة السلطة في الجزائر هي صنو للثروة ولاستخدام كل الوسائل في مواجهة التحديات. وهذا يعني التصدي بحزم لقوى المجتمع ولقوى التغيير اذا ما فكرت بالتحرك او بالتعبير عن رأيها المتباين اذا لم نقل الرافض لأسلوب الحكم فيما لو تعارض هذا الاخير مع أسس الديموقراطية الفعلية. اما عبارة الاستقلال فتعني، حسب مفهومه، الانغلاق حيال الخارج، وتحديداً دول المغرب العربي الاخرى وأوروبا. فكل شيء يأتي من الخارج يعتبر خطراً على النظام وبالتالي على البلاد، فإذا كانت دول الجوار تتمتع بالأمن والاستقرار وبشيء من الازدهار والرفاهية، والجزائريون محرومون من هذه النعم، فهذا خطأ الجيران، والرد هو عدم الانفتاح. لكن الحقيقة هي ان الحكم القائم بكل أسسه وروافده يفتقر للقاعدة الشعبية التي يستمد منها شرعيته. لذلك يحاول استخدام عبارات من قاموس بومدين السياسي مع فارق رئيسي وهو ان بومدين كان يملك حقيقة ومشروعاً يتمثل ببناء دولة اشتراكية بغض النظر عن أي تقييم لها ولنجاحها او لجدواها. والأكثر من ذلك ايضاً ان بومدين كان يملك القاعدة الشعبية الاجتماعية اضافة الى الصدقية كون الشعب الجزائري كان الى حد كبير مقتنعاً بتوجهاته وصدق نواياه. فاستثارة المشاعر الوطنية اليوم هي في غير محلها كونها تأتي في مرحلة يشكو فيها جزء كبير من الشعب الجزائري من العوز والفاقة، انطلاقاً من هنا يمكن الحكم بأن بوتفليقة اخطأ عملياً في تحديده للمرحلة وطبيعتها ولم يدرك ان الجيل الحالي ليس هو جيل الثورة. في ظل هذه الحقيقة المرة، وفي مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية المقبلة لا يمكن للرئيس بوتفليقة الا ان ينسى خطابه السياسي القائم على الاستقلال الوطني والقوة الاقليمية. ما يعني انه سيجد نفسه خلال اشهر مجبر على القبول بالشروط المفروضة من قبل الغرب ومؤسساته. فهو بحاجة، شاء أو أبى، لايجاد ارضية توافقية تضمن لحكمه استمرارية اذا لم يتمكن في فترة وجيزة من اعادة الاستقرار وإرساء السلام الاهلي كما وعد. على أية حال، فإن النظام الذي لا يمتلك قاعدة شعبية في مجتمعه سوف يسعى للحصول على الاعتراف به من قبل الخارج. وإذا ما أرادت الجزائر اليوم ايجاد القروض والتسهيلات اللازمة، فما عليها الا التوجه خلال هذه السنة وبسرعة الى "صندوق النقد الدولي" الذي سيرد هذه المرة على طلب الحكومة الجزائرية الجديدة، لأسباب تقنية وليست سياسية. فالمخرج الوحيد اذن، امام الرئيس بوتفليقة الذي يصرّ على انه "مدين للجيش لأنه انقذ الدولة وما بقي من سمعة الدولة ولأنه كان محرك للديموقراطية" ان يقترب من مجتمعه، طبعاً اذا ما سُمح له بذلك، وأن ينفتح منذ اليوم الأول لتسلمه السلطات باتجاه جيرانه في دول المغرب العربي وأن ينسف فكرة استعادة مكانة الجزائر كقوة اقليمية رائدة من اساسها كي لا تدخل المنطقة في بلقنة من نوع آخر. مجرد تمنيات ربما... لكن علينا ان نتذكر باستمرار ان الخطابات والشعارات المرفوعة قبل الانتخابات ليست هي التي ستبقى قيد الاستعمال بعد الانتخابات. * كاتب واقتصادي لبناني مقيم في باريس.