اعتاد الكويتيون على انتظار مفاجأة حل مجلس الأمة كلما اشتدت الازمات الداخلية، او تعطل الحوار السياسي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولقد اعطى واضعو الدستور في المادة 107 ثغرة قانونية يمكن للأمير استخدامها لتبرير قرار حل المجلس بمرسوم اذا تبين أسباب الحل، شرط عدم تكرار الاسباب السابقة. اي ان دوافع الحل يجب ان تخضع لحجج ومعطيات جديدة مختلفة عن الأسباب التي فرضت سابقاً حل المجالس. في صيف 1976 29 آب - أغسطس أعلن الأمير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح، حل المجلس لأن الأوضاع المتردية في رأيه، لم توفر المناخ السياسي الصالح لممارسة اللعبة الديموقراطية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولقد شكلت في حينه لجنة مؤلفة من عشرين شخصية سميت "لجنة تنقية الدستور" أُنيطت بها مسؤولية مراجعة المواد الدستورية، وادخال تعديلات تسمح للنظام بتأمين علاقات متوازنة تجمع بين ثوابت المبادئ وحرية الممارسات. ومرت المدة المحددة من دون ان تتوصل اللجنة الى اعداد الصيغة التوفيقية المطلوبة. المرة الثانية التي تعرض فيها مجلس الأمة الكويتي للحل - كان في الصيف أيضاً 4 تموز - يوليو 1986 أي في الموعد ذاته تقريباً لتوقيت الانتخابات المقبلة 3 تموز - يوليو 1999. يومها أعلن امير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، حل المجلس وتعطيل بعض مواد الدستور المتعلقة باحكام قانون المطبوعات. ولقد اوضح في خطابه المقتضب طبيعة الدوافع التي فرضت في تصوره اتخاذ مثل هذا القرار، وبينها: أولاً - عجز السلطتين التشريعية والتنفيذية عن التفاهم وإقامة حوار بنّاء. ثانياً - مسلسل الارهاب الذي يستهدف الكويت، وعدم تنبه النواب من موقع المسؤولية الى محاذير هذه الجبهات السياسية المفتوحة. ثالثاً - استغلال الديموقراطية لاختراق وحدة الصف الكويتي، وتحويل الحرية الى فوضى والوطنية الى طائفية. وشدد الشيخ جابر في حينه على الترابط بين امتداد مخطط الفتنة داخل الكويت بواسطة دول اخرى وصفها بأنها "كانت آمنة ومطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان". والثابت ان قرار الحل ظل يتعرض للتأجيل منذ صيف 1982، اي منذ دعي النواب الى جلسة طارئة لاستحداث تشريعات تقلل من اثر ازمة سوق المناخ على الوضع الاقتصادي العام. ومع انفجار هذه الازمة العنيفة اشتدت الخلافات والمهاترات داخل المجلس وعلى صفحات الجرائد الى ان بلغت مرحلة خطرة من الانقسام ظهرت آثارها عبر التناقض المستمر بين الحكومة والنواب. ويبدو ان الدولة في حينه تخوفت من انهيار الحصانة السياسية امام اتساع ثغرة الانهيارات الاقتصادية، الأمر الذي مهد لحل المجلس بعد استقالة وزيرين واعتبرت تلك الاجراءات خطوة ضرورية لوقف النزف ورعاية مصالح الناس وحماية المؤسسات المالية. وكان من نتيجة التدابير الوقائية ان عولجت مشكلة الديون المستحقة لدى القطاع الخاص بواسطة قوانين مختلفة تراوحت بين الاعفاء والتقسيط. علماً بأن ارقام الديون كانت خيالية اذ وصلت الى عشرة بلايين دينار. الأسباب التي وقفت وراء قرار حل المجلس هذا الشهر اختلفت في معطياتها بين ما اعلنته الحكومة من تبريرات حول الأداء التعسفي لنواب استغلوا مواقعهم لتجريح كرامات الوزراء... وبين ما عزته المعارضة الى محاولة تمرير صفقة المدفع الاميركي... او استعجال قانون الديون الصعبة... او الغاء ظاهرة رئيس مجلس الأمة احمد السعدون. وردّ وزير الدفاع الشيخ سالم الصباح على التهمة الأولى بالقول ان الدولة لم تتخذ اي قرار بشأن صفقة المدفع الاميركي وقيمتها 460 مليون دولار، الا بعد أخذ رأي مجلس الامة المقبل. وهذا ما اكده ايضاً النائب الأول لرئيس الوزراء - وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الصباح ل"الحياة" بأن موضوع المدفع الاميركي لن يمر في غياب المجلس، وانه ليست للحكومة صلاحية بحث قانون المديونية. وعلى رغم تكرار النفي الرسمي لما ينسب للحكومة من نيات مبيتة، فان مشكلة الديون المتراكمة والمؤجلة منذ عام 1991 خلقت اجواء من البلبلة والارباك، خصوصاً ان شهر حزيران يونيو المقبل سيكون شهر الحسم والاستحقاق. من هنا تربط المعارضة بين توقيت حل المجلس، وموعد استحقاق الديون المؤجلة المقدرة بثلاثة بلايين ونصف البليون دولار. والمعروف ان نتائج عملية غزو الكويت أرهقت الناس بديون قدرت عام 1992 بعشرين بليون دولار. وكانت هذه الديون الضخمة مستحقة للمصارف من ألوف المدنيين، بينهم مئة مدين يتحملون 80 في المئة من مجموع الدين العام. وخشية ان تتحول دولة الكويت الى نسخة اخرى عن "جمهورية فايمر" المفلسة، تدخلت الحكومة لتحول دون افلاس المصارف، واجترحت قانوناً يخولها حق شراء كامل الديون المترتبة على المصارف. وهكذا تحولت الدولة الى دائن كبير. ولما كان المدينون الكثر لا يستطيعون سداد ديونهم، قامت الحكومة بطرح حل يعفي 55 في المئة من نسبة الديون، على ان تدفع البقية على خمسة أقساط سنوية من دون فائدة. ويُستدل من محصلة القسطين السابقين ان معظم الدائنين تخلفوا عن دفع المستحقات بحجة جمود السوق العقارية وانهيار سوق الاوراق المالية. وتقضي القوانين المرعية باحالة كل متخلف عن الدفع الى القضاء لمحاكمته واعلان افلاسه. ولكي تتجاوز الحكومة الازمة المالية التي ستنشأ حتماً عن هذا الوضع المتقيح، فهي مضطرة الى اصدار قانون يسمح بتأجيل الدفع مرة اخرى. ومثل هذا القانون يحتاج الى مجلس الأمة المغيّب طوال شهر حزيران يونيو أي اثناء استحقاق القسط الثالث. وبما ان المادة 71 من الدستور تجيز للحكومة حق اصدار قوانين بمراسيم اميرية في غياب البرلمان، شرط ان تعرض على البرلمان الجديد لاقرارها وإلا تصبح لاغية... فان المعارضة تتهم الحكومة بأنها في صدد استخدام هذه المادة لتمرير قوانين مستعصية. المرشحون الكثر تناسوا معارك المدفع الاميركي، والديون المستحقة، وركزوا حملتهم على القرار المفاجئ الذي اصدره الامير الشيخ جابر الاحمد الصباح بمنح المرأة حق الانتخاب والترشيح لمجلس الامة اعتباراً من عام 2003. وكان من الطبيعي ان يثير هذا الطرح حفيظة القوى الاصولية والتيارات السلفية التي تسلحت بنص قانون الانتخاب الذي يحصر الترشيح "بالذكور" بعد سن ال21. وانقسم الاسلاميون الذين سيطر ممثلوهم على ثلث مقاعد المجلس الاخير، الى فريقين: فريق يسمح للمرأة بحق الانتخاب فقط دون ان تعطى حق الترشيح... وفريق يطالب بانجاز هذه الخطوة، وانما في ضوء احكام الشريعة الاسلامية. ولكن الامير استند الى نصوص الدستور ليذكر ممثلات الجمعيات اللواتي قمن بزيارته للشكر، ان واضعي الدستور ثبتوا في المادة 29 هذا الحق. وعبّر لهنّ عن حق المرأة السياسي، مشيداً بانجازاتها على مختلف المجالات، مؤكداً انها تستحق الانصاف والمساواة التي نص عليها الدستور. وتقول المادة 29: "الناس سواسية في الكرامة الانسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات، ولا تمييز بسبب الجنس او الأصل او الدين". ويقول المشرعون ان هذه المادة مستوحاة من روح الشريعة ومن روح شرعة حقوق الانسان، وان التعامل مع المرأة الكويتية، مطلع القرن المقبل يجب ان يكون بتوسيع المشاركة الشعبية - الديموقراطية عن طريق الاعتراف بحقوقها لا عن طريق انكارها وتهميش وجودها ودورها. وهو دور بالغ الاهمية ان كان في البيت او في المكتب او في المدرسة. والثابت ان عدد الجامعيات في معاهد الدراسات العليا يتخطى نسبة ال75 في المئة، علماً بأن عدد "الذكور" لا يتجاوز ال25 في المئة. ومثل هذه النسبة في التفاوت العلمي تنسحب على مختلف الحقول الادارية والاجتماعية والصحية والادبية والمصرفية. ولقد انتقد بعض النواب حصر دور المرأة الكويتية باختيار ممثليها في المجلس فقط، لأن ذلك يجعل منها نصف انسان، ونصف مواطنة، ونصف مسؤولة، علماً بأن نشاطها خلال فترة الاجتياح ساعد على اذكاء جذوة القضية الوطنية في الخارج وهيأ الاجواء السياسية لقبول الحل العسكري. ويعترف هذا الفريق غير المتزمت من النواب بأن المؤسسات الرسمية تضم اكثر من ستمئة امرأة تعتبرهن الدولة العصب الاداري القادر على تحريك عجلة الادارات المختلفة. وهو يرى انه من المعيب حقاً ان يمنعها القانون من تحقيق طموحاتها في وقت تسمح دول اسلامية الهوى مثل باكستان وتركيا للمرأة بأن تنافس الرجل على رئاسة الوزارة. ويرى المتابعون لسير المعركة الانتخابية ان جهد النساء سيصب على الثأر من كل المرشحين الذين رفضوا الاعتراف بحقوقهن السياسية والانسانية، بطريقة تؤثر على النتائج. وفي ضوء هذه التحولات يتوقع المراقبون ان يكون مجلس 1999 مختلفاً في تشكيله وخريطته التمثيلية عن كل المجالس السابقة بما فيها مجلس 1992 ومجلس 1996. والسبب ان موضوع حقوق المرأة سيطغى على المسائل الاخرى التي تثيرها المعارضة لاحراج الحكومة. كما وان حركة المصالحة مع انظمة "الضد" مثل اليمن وتونس والأردن والسودان ستساعد المنتقدين على التصالح مع نظامهم، وعلى التكيف المحدود مع دول عربية رُفعت عنها المقاطعة لأن الكويت لم تعد تؤمن بسياسة العزل والانتقام من دول تعاطفت مع العراق اثناء الغزو. وهي تنتظر من ياسر عرفات ان يقوم بمبادرة تلغي قطيعة الاعوام الثمانية لاعتقادها بأن الابتعاد عن الدول العربية التي احتضنت حركته، سيبعده أيضاً عن حظوظ التسوية التاريخية. ويجمع الديبلوماسيون العرب الذين خدموا في الكويت، على القول بأن هذه الدولة - المدينة متهمة دائماً بأنها تحاول تقليد الدول العظمى في تفردها بالقرارات المخالفة لنهج جاراتها. والدليل انها خلال الحرب الباردة كانت تسلك خط الانفتاح على الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية ودول المنظومة الاشتراكية، لقناعتها بأن انتماءها السياسي يجب الا يخضع لانتمائها الجغرافي. وكانت المعارضة الكويتية متهمة دائماً بالسباحة ضد التيار لأن الادوية العقائدية التي وصفتها للمعالجة غالباً ما أدت الى انتشار المرض. وكما ان الحرب اللبنانية بدلت نظرة اللبنانيين الى واقعهم وفتحت أعينهم على حقائق جديدة... كذلك تغيرت نظرة الكويتيين الى دورهم السابق "كدولة عظمى" لم ينقذها من قبضة صدام حسين سوى "مدفع بوش الاميركي..." وموقف "امرأة" اسمها مارغريت ثاتشر. * كاتب وصحافي لبناني.