على غير ما يردده معظم العاملين في الوسط الفني من ممثلين ومخرجين وكُتاب سيناريو أنهم مرضى ومجانين فن منذ صغرهم، وأنهم كانوا ينفقون مصروفهم الشخصي في شراء تذاكر السينما... وما إلى ذلك من الكلمات والعبارات المكررة والمتطابقة، يؤكد المخرج والسيناريست حسين حلمي المهندس أنه اتجه الى الفن مصادفة، واستطاع أن يثري الشاشة العربية خلال 54 عاماً بالأفلام الروائية التي يزيد عددها على الثلاثين فيلماً، كتب لها جميعاً السيناريو والحوار، وأخرج 13 فيلماً، تراوحت بين الكوميدي والاجتماعي مثل "شمس لا تغيب"، والغنائي "أنا وبناتي"، والنفسي "الطريق"، والبوليسي "ساعة الصفر"، والوطني "العمر لحظة"، إضافة إلى إخراجه 11 فيلماً تسجيلياً وقصيراً، حصلت مصر بفضل اثنين منها "المقعد الخالي"و"معاً على الطريق" على منحة قدرها 52 مليون دولار من برنامج الغذاء العالمي التابع لهيئة الأممالمتحدة. وحاز شهادات تكريم وجوائز عدة أبرزها جائزة الجدارة من الجمعية المصرية لفن السينما عام 1987، وجائزة الريادة في الإخراج السينمائي من مهرجان جمعية الفيلم السنوي الثامن عشر للسينما المصرية. "الحياة" التقته وأجرت معه هذا الحوار: لم الابتعاد عن الانتاج الفني؟ - لم أبتعد، أليست للمحاضرات والندوات والاجتماعات الاسبوعية في منزلي والكتاب الذي وضعته وجود؟ ثم ان الوجود ليس بإرادتي وحدي، وإن كان هذا جزء من المسألة، ولكن أفترض ان الآخر لا يريدني لم أعرض عملاً على أحد طوال حياتي لأنهم كانوا يطلبونها مني، والذي يطلب مني هو المنتج وهو يريد أن يكون "البيه" والشخص - الظاهر نافش ريشه وهذا سبب تافه إلا أنه تدخل، الشيء الثاني البضاعة التي يريدها من أجل السوق لا تناسبني على الاطلاق، إذاً المطلوب شيء غير الذي أعمله وأحبه، المناخ غير صحي بالنسبة إلي، وقد يكون ملائماً وصحياً جداً على إطلاقه بالنسبة الى الآخرين. ذكرت سبباً للابتعاد كلمة "البضاعة"، هل تعني بها الورق؟ - قبل أن اقول الورق أقول إن الأهم من الجميع على الاطلاق هو المتلقي وهو أهم ضلع في العملية، والجمهور العظيم هو الذي يخلق الفنان العظيم وهو المخرج الأول والكاتب الأول والممثل الأول. تقصد المتلقي فنياً أم المتلقي عموماً؟ - ليس الفن وحده هو الذي يُعد المتلقي - الفن ليس شماعة لأن جميع قطاعات الدولة مشتركة في تكوين وجدان هذا الجمهور، وتوجد قطاعات مسؤولة مثلنا وأكثر مئة مرة، ومنها قطاع التعليم الذي يساهم مساهمة ضخمة في إعداد المتلقي، وشعار "الجمهور عايز كده" صحيح مئة في المئة لأن الجمهور تكوّن عبر اكتساب، وجميع قطاعات الدولة برمجت المتلقي "على كده"، والمتلقي الآن لا يناسبني بكل أسف، ولا أقصد كل الجمهور، لا، الجمهور يعني فيه تنوع في إطار ثقافة واحدة، من أجل هذا عندما أذكر المناخ أذكره من زوايا عدة. تؤكد دائماً ان بدايتك مع الفن كانت بالمصادفة، هلا حدثتنا عنها؟ - المصادفة أساس في حياتي، حتى في الأعمال الفنية الدرامية، ونشأتي كانت دينية فنية، فوالدي كان "خليفة" في الطريقة الشاذلية، وبالتالي كان يتردد على منزلنا جمهور كبير من المتدينين أصحاب المستوى الخُلقي الكبير، وكنت أستمع الى الأناشيد من أعظم الأصوات، والناحية الدينية كانت الإطار الذي تحركت فيه منذ صغري وإلى الآن، وأذكر أنني علمت نفسي العزف على آلة الكمان ودرست الموسيقى على سبيل الهواية، وكتبت القصة مبكراً. أما بدايتي مع الفن فكانت عام 1945 بعد تخرجي في كلية الهندسة - قسم الميكانيكا، طرق باب مكتبي في ميدان الأوبرا بعض أصحاب إحدى الشركات السينمائية يطلبون تركيب لافتة تعلن عن نشاطهم، وبعد جلسة حوار معهم شدني الحديث عن العالم السحري للسينما، والطريف في الأمر أنني أنتجت الفيلم الذي كانوا يحدثونني عن رغبتهم في تنفيذه، وهو "أزهار وأشواك" من اخراج محمد عبدالجواد، وخسرت بسبب هذا الفيلم 24 ألف جنيه أي ما يعادل مليوني جنيه حالياً. وعلى رغم ذلك أكملت مشوار الفن؟ - كان لديّ استعداد للفن، والسينما كالميكروب اذا دخل الجسم لا يخرج منه. وهي أشبه بالقمار اذا خسرت تريد تعويض الخسارة واذا كسبت تريد مزيداً من الكسب. ثم أنني وجدت في السينما كل شيء هندسة وقانون وتجارة وزراعة وطب، ثم ان فيلم "أزهار وأشواك" كان بداية صداقة حميمة مع الممثل الكبير يحيى شاهين الذي شارك بطولة الفيلم مديحة يسري وعماد حمدي وحسن فايق، وقدمت فيه "الوجه الجديد" هند رستم ومعها فايدة كامل وشادية. قدمت أفلام "الغريب" عن رواية "مرتفعات ويذرنغ" لاميلي برونتي، و"هذا الرجل أحبه" عن رواية "جين ايسر" لشارلوت برونتي، ودفعت السيناريو والحوار لرواية "الطريق" لنجيب محفوظ، "وعندما نحب" لمحمد التابعي، و"العمر لحظة" ليوسف السباعي، هل ترى اختلافاً بين كون الفيلم عن قصة من تأليفك أو قصة من تأليف الآخرين؟ - قدمت فيلم "الغريب" لرغبة يود تحقيقها يحيى شاهين الذي كان لعب بطولة المسرحية في الفرقة القومية، وأراد إنتاجها سينمائياً، وحشد لها عدداً من النجوم منهم ماجدة وكمال الشناوي ومحسن سرحان، وفي "هذا الرجل أحبه"، كان الموضوع بالغ القوة والإنسانية في آن واحد، وما يهمني هو جوهر الموضوع ومدى صلاحيته سينمائياً حتى استطيع التفرغ لإعداده وإعادة صياغته بالأسلوب المناسب المقنع بعد ممارسة حريتي تماماً في الحذف أو الإبقاء أو الاضافة، والمهم هو الأمانة في ذكر المصدر. هل هناك فرق بين اخراجك عملاً ألفته أم ألفه سيناريست آخر؟ - عندما أخرج عملاً من تأليف سيناريست آخر استفيد، وعندما اخرج فيلماً من تأليفي كنت اعتبر الذي كتبه شخصاً غريباً عني، وأكون ناقداً، لأنني لو اعتززت بما كتبته سأضيع نفسي كمخرج، وما حدث لي أنني بدأت الكتابة ثم أرغمني الآخرون على الاخراج أو اكتشفوني. ما أبرز مواصفات كاتب السيناريو الجيد؟ - الثلاثي المقدس: الموهبة ثم العلم ثم الخبرة أو التجربة، والثلاثة لا بد من وجودها، وقد تكون الموهبة موجودة بضخامة ولا توجد خبرة أو علم لكن يمكن اكتسابهما، وقد تكون موجودة بنسبة ضئيلة ولكن يعوضها العرق والتعب، وأعظم معلم للكتابة هو الكتابة، ومن وجهة نظري أن مولد سيناريست شيء خطير وأصعب من مولد مخرج. ما الفرق برأيك بين السينمائيين العرب والأجانب؟ - جلست مع رؤساء مجالس إدارات في شركات عالمية، وشاركت في مهرجانات عدة بحضور مخرجين ومؤلفين عالميين، وما من مرة جلست مع أحدهم إلا وكنت الأعلى ولا أقول ذلك افتخاراً، ولكن لكي لا نشعر بعقدة الدونية، وكل ما في الأمر أن لديهم مناخ صحي يساعدهم وإمكانات أكبر. هل تتوقف ذاكرتك أمام أفلام بعينها في مشوارك الفني الطويل؟ - أي عمل عملته بل أي لقطة عندما أشاهدها تأتي لي بتداعيات، وقد لا تأتي بتداعيات، وإنما أعجب بها واستمتع، ولكنني أتوقف أمام فيلمي "الغريب" و"هذا الرجل أحبه"، للرد على ما يُسمى مسألة الاقتباس عن أعمال عالمية، وهذان الفيلمان يجب تدريسهما لأنني تعاملت مع الكتب مباشرة ولم أر الأفلام الأجنبية أو أتعامل معها. وطالبت ذات مرة بأن يحضروا العمل الأجنبي الذي يتحدثون عنه، وكذا العمل المصري ويعرضوهما على الجمهور ثم يقارنوا من جميع الزوايا الاخراج.. الكتابة.. التمثيل.. وكل العناصر الأخرى، ليتأكدوا أننا أفضل مئة مرة، ولكن ماذا تقول في عقدة الخواجة؟ واذكر فيلم "أنا وبناتي" لأنه يعبر عن الأسرة المصرية الصغيرة والكبيرة، واعتز بفيلم "الوديعة" من أجل الدور الذي قامت به هند رستم وهي الإنسانة المرحة الوديعة صاحبة الجسد الجميل، وكانت طوال الفيلم مُقعدة على كرسي متحرك ولم يكن لدي غير وجهها فقط، ومع ذلك خرج الفيلم رائعاً، وأعتز بفيلم "الملاك الصغير" لأنني كتبته في إحدى الليالي التي كنت مؤرقاً فيها وقمت باشعال سيجارة واسندت رأسي على الوسادة وفور انتهائي من السيجارة كنت ألفت الفيلم بما فيه اسمه، وهذا الفيلم الناعم جداً نجح نجاحاً مذهلاً، وأذكر أنني كتبت مشهداً اثناء وجودي في البلاتوه في فيلم "سيدة القصر" بين عمر الشريف واستيفان روستي وكان من أعظم ما مثّل روستي إن لم يكن الأعظم على الإطلاق. ومَن مِن الممثلين كان يعجبك أداؤه؟ - كل واحد له ميزة ولكنني أتوقف أمام رشدي أباظة الذي كان يُعد أكثر فنان "فاهم" سينما ومدرسة، وكان لديه سرعة بديهة وقدرة على التمثيل، وكذا الراحل حسين رياض الذي كان ينفذ كل التعليمات التي توجه إليه بحرفية عالية جداً. قمت بإخراج عدد كبير من الأفلام التسجيلية.. لماذا كان الاتجاه الى هذا النوع من الأفلام؟ - الحقيقة أن كل ما قمت بإخراجه كان تكليفاً من بعض الجهات المنتجة استشعرت فيّ القدرة على توصيل رسالتها الثقافية من خلال هذا النوع من الأفلام المهمة التي لا تأخذ حقها المفروض في اتساع دوائر انتاجها ونوافذ عروضها ومجالات توزيعها والإعلام عنها والدعاية لها وتقدير الجهد المخلص الصامت لأبنائها. كتبت للتلفزيون مسلسل "زينب" من اخراج نور الدمرداش عن قصة محمد حسين هيكل، وكتبت وأخرجت مسلسل "بيت العيلة"، هل وجدت فرقاً بين السينما والتلفزيون؟ - أردت في رواية "زينب" تقديم رؤية جديدة للأحداث والعلاقات الانسانية بين الشخصيات تسمح لي بها المساحة الزمنية المناسبة في حلقات المسلسل، والحقيقة أنه لا يوجد اختلاف جوهري، وربما تكون هناك بعض الفروق في التكنيك والتناول ولكن التجارب متقاربة. وينطبق عليهما ما ينطبق على أي عمل جيد يتم التحضير له والإعداد السليم الذي يضع في اعتباره جدية الرسالة وارتفاع المستوى الفني واحترام عقلية المشاهدين والتعبير الصادق عن قضايا المجتمع الذي نعيشه. ما رأيك في إعادة تقديم الأفلام القديمة الى مسلسلات تلفزيونية؟ - ليست قضية نتكلم فيها، هذه المسألة صحيحة مئة في المئة، "يا أخي اشمعنى الخواجة لما يعملها نعظم له؟ هل أنت احتكرت العمل؟"، العمل يمكن تقديمه بأشكال ورؤى، المسألة ليست احتكاراً ومن يعيد تقديم العمل قد يتفوق على من قدمه أول مرة قد يفوق الغصن أصله.