لا أحد في فرنسا اكترث في 20 نيسان ابريل الماضي لنبأ الحريق المتعمد في كورسيكا الذي "التهم" كوخ "شي فرانسيس" المحاذي للبحر، بل اعتبر حادثاً لا يذكر، مقارنة بالاغتيالات والتفجيرات الدموية التي باتت ظاهرة في الجزيرة. ولم يتوقف احد عند الحادث خصوصاً ان كورسيكا منذ 15 شهراً تقريباً في عهدة ايف بونيه، الذي تسلّم رئاسة دائرة الشرطة بعد اغتيال سلفه كلود ارينياك، ونجح في تحسين الاحوال الامنية، بالتعاون مع جهاز الشرطة الخاص "جي. بي. اس"، الذي يديره الكولونيل هنري مازير. كاد احراق "شي فرانسيس" يصنف في خانة تصفية الحسابات المحلية، في ظل التنافس الشديد التقليدي بين اصحاب ذلك النوع من الاكواخ المنتشرة في صورة غير شرعية على سواحل كورسيكا. لكن رجال الشرطة المحلية عثروا في مكان الحادث على قناع وجهاز اتصال أثارا ريبة كونهما من النوع المستخدم لدى جهاز الشرطة الخاص التابع مباشرة لبونيه. وبعد سلسلة من التحقيقات الأولية، قررت الشرطة القضائية تولّي الأمر وتركيز اهتمامها على الشرطة الخاصة، بموافقة المدّعي العام برنار لوغرا الذي طالما كانت علاقاته ببونيه سيئة. وسرعان ما تبيّن للمحققين ان مدبري الحريق ليسوا مجرمين عاديين او رجال شرطة عاديين بل ثلاثة من عناصرها البارزة: الكابتن نوريير امبروز والملازم دونيه تافيرنييه واريك مولييه، وانهم تركوا وراءهم القناع وجهاز الاتصال لأنهم اضطروا لاخلاء المكان بسرعة، بعدما اصيب امبروز بحروق بسبب الرياح التي هبّت في تلك الليلة على الجزيرة. وحين سئل المحققون عن السبب الذي دفع الثلاثة الى احراق الكوخ، جاء الجواب بعد تردد كبير: احرق بأمر من قائد الشرطة الخاصة الكولونيل هنري مازيير. وفي ضوء هذا الاعتراف تحوّل الحادث الى عاصفة هبّت على كورسيكا، وامتدت رياحها الى مقر الحكومة الفرنسية ووزارتي الداخلية والدفاع. فاستجواب مازيير اظهر ان الامر باحراق "شي فرانسيس" اعطي بإيحاء من بونيه ومدير مكتبه جيرار بارديني، فاعتقل الاخير، فيما طلب رئيس الحكومة الفرنسية ليونيل جوسبان من رئيس دائرة شرطة كورسيكا الاستقالة، ووضع نفسه في تصرف المحققين، مما ادى الى اعتقاله. ولكن ما الدافع الذي ورط بونيه بمثل ذلك الحادث؟ الاجوبة متعددة ومتداخلة. فهناك الاستياء الذي شعر به عندما اضطر نتيجة تدخلات سياسية الى تجميد خطة كان وضعها لإزالة الاكواخ الخشبية المبنية عشوائياً، وهناك الاشاعات التي سمعها عن احتمال استبداله بشخص اكثر مرونة وأكثر ميلاً الى التسويات... وهناك ايضاً شعوره بأن صاحب "شي فرانسيس" لديه بحكم عمله معلومات يحجبها عن الشرطة الخاصة في شأن اغتيال الرئيس السابق للشرطة ارينياك، والذي تتنافس الاجهزة على كشف مرتكبيه. نتيجة كل ذلك، حوّل بونيه نفسه من موفد مكلف من السلطات الفرنسية احلال دولة الحق في كورسيكا، الى مشاغب لا يتردد في اعتماد أساليب جديرة بصغار المجرمين. فتلقفت المعارضة اليمينية الفرصة وحوّلت القضية الى واحدة من أسوأ الازمات التي واجهها جوسبان منذ توليه رئاسة الحكومة اليسارية في عام 1997، علماً ان بونيه بصفته رئيساً لدائرة الشرطة في كورسيكا، يتلقى التويجهات من مكتب رئيس الحكومة ووزير الداخلية، وان جهاز الشرطة الخاص الذي يعاونه مرتبط بوزارة الدفاع. وفيما لا تزال حكومة جوسبان تواجه ذيول هذه القضية على رغم التأكيدات الرسمية المتكررة بأن بونيه تصرف تلقائياً، انضمت الى حكومات سابقة احرقت اصابعها، عندما قررت تسوية الاضطرابات التي تسود كورسيكا لأسباب متباينة: من حركات انفصالية الى مافيات، وصولاً الى التنكر لأبسط القواعد القانونية المطبقة في الأراضي الفرنسية. ويقال في فرنسا ان لدى كورسيكا قوة "هائلة" مستمدة من تاريخها، تجعلها قادرة على شلّ كل من يسعى الى تغيير اوضاعها.