مر الرابع من ايار مايو من دون اعلان دولة فلسطينية كما توقع كثيرون، ومن دون تطورات دراماتيكية مثيرة، وعلق التهديد الفلسطيني بالاعلان والوعيد الاسرائيلي بالردع. وجاءت انتخابات 17 أيار الاسرائيلية لتخلط الأوراق السياسية في رئاسة الحكومة والكنيست وتضع قطار السلم على سكة مختلفة في آلياتها الاقليمية والدولية. نستأذن السياسيين والديبلوماسيين والمفاوضين الذين انشغلوا وأشغلونا بالموعد "المقدس" بالعودة الى موضوع آخر غير الدولة، لا يقل اهمية استراتيجية عنه، لكنه يمس مصير اكثر من نصف الشعب الفلسطيني، ونقصد قضية اللاجئين وموضوع حق العودة. اذا كانت حرب 1948 الكارثية، شكلت إنقلاباً شاملاً في حياة الشعب الفلسطيني اللاجئ والمقيم على حد سواء، ووضعت مصير الشعب الفلسطيني بمجمله تحت رحمة المخطط الصهيوني والقرار الرسمي العربي بعد افتقاده وحدته الوطنية وتماسكه الديمغرافي وإطاره الوطني السياسي والقيادي، فان النكبة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين خصوصاً كانت اكثر كارثية وإنقلابية لأنها افقدتهم الى ما تقدم، العلاقة بالأرض والانتاج والممتلكات والتماسك الاجتماعي والهوية الوطنية. وفق المعطيات والحقائق التي اوجدتها كارثة 1948، وأبرزها تكريس "اسرائيل" في الواقع وشطب "فلسطين" من الخريطة السياسية، كان من المفترض حسب المشروع الصهيوني ان تنتهي قضية فلسطين الى الأبد، وان تذوب قضية اللاجئين في المحيط العربي وان تبتلع الصحارى العربية حق العودة الفلسطينية الى الأبد، لكن الذي جرى غير ذلك. مضت رحلة اللاجئين الفلسطينيين العسيرة، لكن الناجحة في مقاومة عوامل الفناء ومشاريع التصفية، وفي البحث عن الذات، وفي التعبير السياسي والنضالي عنها، والانتقال بقضية اللاجئين من طابعها الانساني الى السياسي، والانتقال بحق العودة من حال الحلم القومي الى دائرة الممارسة الوطنية، وإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية. وخلال مسيرتها النضالية نجحت الحركة الوطنية في تعزيز "الشخصية الوطنية" و"الكيانية السياسية" و"الوحدة الوطنية"، وكان للاجئين الفلسطينيين الدور الأبرز في المواجهة، وحملوا على أكتافهم العبء الأكبر، وشكلوا وقود الثورة والمقاومة المسلحة. واحتلت مسألة حق العودة مكاناً خاصاً في التفكير السياسي الفلسطيني، وأعيد لها الاعتبار وطنياً وإقليمياً ودولياً. لكن بعد تصدره برنامج الاجماع الوطني في المرحلة النضالية الماضية، لم يلبث شعار حق العودة ان تراجع في المرحلة التسووية الجديدة الى الخلف ليصبح رهينة المشاريع والبرامج السياسية التي شهدتها المنطقة في ظل متغيرات فلسطينية وعربية ودولية شديدة القسوة قوية التأثير. واجه حق اللاجئين في العودة موقفاً صعباً في زمن التسوية، والمفارقة في هذا المأزق الذي وجد اللاجئون انفسهم فيه، انه في الوقت الذي يفترض ان يقوم "السلام" بتسوية المشكلة التي فاقمتها "الحروب" فان الذي جرى كان عكس ذلك اذ جاءت التسوية السلمية او "عملية السلام" لتثقل كاهل اللاجئين، وتعطل استحقاق العودة، وتثير التباساً و ضباباً عن حقهم التاريخي في فلسطين. كشفت المحطات التفاوضية الرئيسة في مدريد - اشنطن - اوسلو عن حجم التنازل السياسي ودرجة التراجع الديبلوماسي ونسبة التهافت التفاوضي على الجبهة الفلسطينية، وظهر جلياً ضعف الأداء التفاوضي الفلسطيني في مواجهة قوة الأداء الاسرائيلي خصوصاً في الموقف من قضية اللاجئين وحق العودة. ويلاحظ الأمور الآتية: أولاً: يتميز الموقف السياسي الاسرائيلي في معالجته للمشكلة منذ تشكلها بالثبات والحسم: لا اعتراف فعلياً وحقيقياً بمبدأ حق العودة، لا امكان لعودة اللاجئين كلياً او جزئياً، لا اعتراف سياسياً وأخلاقياً بالظاهرة، وعلى رغم المرونة التكتيكية الموقتة التي اظهرتها اسرائيل بعد قبولها في الأممالمتحدة التي عبر عنها مفاوضوها خلال مفاوضات لوزان، وتحت الضغط الاميركي في حينه عودة جزئية ثم مشروطة ثم مؤجلة الا ان التفكير السياسي الاسرائيلي سواء في خطابه الداخلي او حركته الخارجية حافظ منذ بداية الخمسينات على لغة واحدة واضحة حاسمة. وظل الاسرائيليون في حركتهم السياسية والتعبوية يعتبرون قضية اللاجئين مسألة امنية تؤثر على الطابع اليهودي للدولة، حتى لو كانت عودة اولئك اللاجئين الى اراضي السلطة الوطنية، واذا كان هناك بعض مرونة في موقف حزب العمل من موضوع النازحين الا انه في موضوع اللاجئين يعود الى تصلب الليكود وخطوطه الحمر. ثانياً: يتميز الموقف السياسي الفلسطيني تجاه قضية اللاجئين تحديداً، منذ نشوئها بحال من الإرباك وعدم الوضوح وعدم النضج ناتجة عن التمزق الذي أصاب الحركة الوطنية والتشوه الذي أصاب تفكيرها السياسي في المرحلة الأولى، وناتجة عن استغراقها في الخطاب القومي على حساب القطري ثم استغراقها بعد نهوضها الوطني في الشعار الثوري والعقائدي على حساب السياسي الملموس في المرحلة الثانية ثم انحيازها الى الخيار الديبلوماسي والتفاوضي في المرحلة الثالثة، الأمر الذي قادها الى حال تناقض وازدواجية وأوقعها في اشكالات خطيرة في المرحلة الراهنة ولعل أبرزها التناقض بين الخطاب المعلن وبين التفكير الحقيقي، اي بين العمل السياسي وبين المساومات التفاوضية، الذي ولّد بدوره مجموعة تعارضات بين الحقوق الوطنية المنشودة وبين المكاسب السياسية المحققة وكذلك بين شعار الدولة المستقلة ومبدأ حق العودة، الذي ولد تعارضاً بين العودة الوطنية المفترضة والعودة الادارية المشروطة، بين دور م. ت. ف في الخارج ومهمات السلطة في الداخل، وبين الاستراتيجي والمرحلي. صحيح ان الديبلوماسية الفلسطينية - العربية تحاول اليوم تجاوز حال الغموض والضبابية السابقة عن مسألة حق العودة امام الديبلوماسية الاسرائيلية المتعنتة، وأخذت تجاهر بالتمييز بين الحل الواقعي الممكن وبين الحل التاريخي المفترض، وتثير الأبعاد السياسية والقانونية والانسانية لقضية اللاجئين، لكن الصحيح ايضاً ان المسؤولين والمفاوضين الاسرائيليين المستندين الى ميزان قوي راجح ودعم اميركي مفتوح، يدفعون بإتجاه تفكيك المنطق العربي وإرباك الحركة الديبلوماسية عن طريق اطلاق اشارات والترويج لاقتراحات لا تشكل اكثر من هوامش تجميلية خصوصاً في مسألة النازحين لا اللاجئين لأمر واقع مفروض بقوة احد المفاوضين لا الشرعية الدولية التي وضعت قراراتها جانباً. الآن وفي مواجهة الاستراتيجية الاسرائيلية الواضحة والثابتة تجاه قضية اللاجئين، وأمام التكتيكات والمناورات التفاوضية التي يلعبها المسؤولون الاسرائيليون، وبعد انتهاء المرحلة الانتقالية، تبدو الحاجة ملحة على الجانب العربي لاعادة بناء تصور، ان لم نقل، استراتيجية عربية شاملة ومتماسكة في موضوع من المفترض الا يختلف عليه العرب كثيرا وألا يخضع لضغط المصالح والحسابات القطرية والمناكفات والحساسيات الشخصية خصوصاً وان القيادة الاسرائيلية دفعت بمفاوضاتها مع الكل الى طريق مسدود. وفي هذا المجال اعتقد ان الفكر السياسي الفلسطيني بكل قواه وروافعه تقع عليه، قبل غيره، مهمة ابداع ذلك التصور الاستراتيجي الذي يربط بين الحق المبدئي والتاريخي من دون الإستغراق في الشعار، وبين الحق السياسي القانوني الشرعية الدولية وبين البرنامج العملي الممكن التسوية الراهنة، ويأخذ في اعتباره وحساباته التعقيدات السياسية والتطورات والوقائع الديموغرافية وموازين القوى الراهنة والمستقبلية والممكنة، شرط عدم الاستغراق في البحث عن حل للعقدة الاسرائيلية او عن حل عربي - فلسطيني للمشكلة اليهودية، استجابة للابتزاز الأخلاقي والإرهاب الفكري او تحت إغراء المبادرات واللقاءات والمنتدبات التي يستدرج اليها بعض المفكرين والمثقفين العرب والفلسطينيين. ولعل الحفاظ على العلاقة بين الحلقات الثلاث الآنية والمنظورة والمستقبلية يتطلب توفير الخطط والوسائل الكفيلة ب: الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني بين الداخل والخارج لتلافي تصادم المصالح والمرجعيات الشرط الوطني، تكريس الهوية القومية العربية للشعب الفلسطيني لمنع أرمنة او تكريد الشعب الفلسطيني الشرط القومي، وإدامة التكامل والتفاعل بين الحقوق الفلسطينية المختلفة لمواجهة اليأس والإحباط واللامبالاة الشرط النضالي. كما يتطلب لغة سياسية تفاوضية متماسكة تتعامل مع قضية اللاجئين، وحقهم في العودة في اعتباره: أولاً: حقاً شعبياً جماعياً وليس فردياً وإنتقائياً البعد القومي التاريخي. ثانياً: حقاً شرعياً قانونياً دولياً وليس مكرمة إسرائيلية او اميركية البعد الدولي القانوني. ثالثاً: حقاً سياسياً وطنياً وليس إنسانياً إدارياً بحتاً البعد السياسي الوطني. صدرت حديثاً عدة دراسات وأبحاث تتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين، تضمنت مبادرات واقتراحات عديدة دعت الى اعتماد خيارات استراتيجية تبدأ بالفصل بين قضايا المبعدين والنازحين وقضية اللاجئين لتجنب توطينهم في الضفة وغزة، والحصول على اعتراف اسرائيل بمسؤوليتها عن مشكلة اللاجئين وقبولها المبدئي بحقهم في العودة الى منازلهم، او دفع تعويضات الذين بقوا في الخارج تتراوح بين تعويضات جماعية وتعويضات فردية. ودعت الى انشاء هيئات متخصصة مثل "سلطة أرض فلسطين" تكون باسم الشعب الفلسطيني في كل مكان وظيفتها "توثيق واسترجاع وحماية استثمار أملاك الفلسطينيين في اسرائيل"، والحفاظ على وجود وكالة الأونروا بل وتوسيع عملها لتشمل اللاجئين الموجودين في خارج مناطق عملها الخمس، او العمل على احياء هيئة التوفيق الفلسطينية للاشراف على عمليات العودة، والدعوة الى تنشيط دور المنظمات الاقليمية الفلسطينية والعربية لدعم قضية اللاجئين. ودعت ايضاً الى بناء مرجعيات خاصة باللاجئين تتراوح بين اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وانشاء منظمة جديدة. واقترح بعض فصائل المعارضة تأسيس حزب العودة الفلسطيني، كما اقترح المرحوم خالد الحسن، او تشكيل حركة اللاجئين الفلسطينيين. ويمكن القول ان ما يجمع بين معظم تلك الدراسات، التي تستحق التقدير والتدقيق والمتابعة، اضافة الى تسجيل التمسك النظري بالحق التاريخي في العودة، اولاً التمسك السياسي بالمرجعية الدولية وبقرارات الشرعية الدولية الخاصة بقضية اللاجئين خاصة القرار 194 بصرف النظر عن نواقصه وثغراته، وثانياً، المحافظة على وكالة الأونروا وتأكيد الالتزام الدولي تجاه اللاجئين وتعزيز دورها وعدم النظر اليها كمؤامرة على اللاجئين او كمنقذ لمصيرهم، وثالثاً، مقاومة خطط تصفية المخيمات، بالتفكيك او النقل توطئة للاسكان والتوطين، من دون معارضة تحسين شروط سكن ومعيشة وحياة اللاجئين، رابعاً، بلورة حركة او سلطة او هيئة مركزية خاصة باللاجئين تعمل على توحيد وادارة نضالاتهم الوطنية العليا م. ت. ف في الوقت الراهن وتأسيس الأطر السياسية الوطنية العامة، والاقليمية، والشعبية، المرنة والقادرة على القيام بالمهمات التنظيمية والتعبوية والسياسية المناسبة في التجمعات والمخيمات الفلسطينية المختلفة الكفيلة بالحفاظ على حق العودة وصيانته من التآكل، واستعادة الوحدة الوطنية للاجئين الفلسطينيين عموماً، وتكريس البعد العربي لقضية اللاجئين في اعتبارها قضية قومية، لا شأناً قطرياً فحسب. اليوم وبإنتهاء فترة المرحلة الانتقالية في الرابع من ايار وبوصول اتفاقات أوسلو الى طريقها المسدود وفوز ايهود باراك في الانتخابات الأخيرة، يصبح كل الفلسطينيين في الداخل والخارج امام وضع مختلف واستحقاقات ومهمات جديدة. خصوصاً وان الطرفين، السلطة والمعارضة، اخفقا في تحقيق الشعارات والوعود التي اطلقاها. قضية اللاجئين التي شكلت جوهر القضية الفلسطينية وأساسها تستحق ان تعود لتكون مع الدولة المستقلة على رأس الأهداف الوطنية، وكما ان شعار "حق العودة" يستحق ان يعود قضية كل الشعب الفلسطيني، ليس لأنه قضية وطنية عادلة، بل ايضا لأنها تحمل في مضمونها شرعية وصدقية لا يستطيع حتى دعاة النظام العالمي الجديد التنصل منها لأنها تقع في صميم شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان وتقرير المصير التي يتغنون بها. * كاتب فلسطيني.