قبل الحديث بشأن الموقف الإسرائيلي من قضية اللاجئين خلال المفاوضات مع الأطراف العربية والفلسطينية، ينبغي التنويه هنا أن حق العودة، كغيره من الحقوق التي أقرّها القانون الدولي، ليس قابلا للتفاوض، فهو حق عالمي، وحق قاطع في القانون الدولي، والحل الأنجع الذي سبق واستخدم في جميع قضايا جميع اللاجئين حول العالم دون استثناء، بغض النظر عن معتقداتهم، ديانتهم، جنسياتهم الأصلية. ويدرك المراقب لسير المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، منذ مؤتمر مدريد 1991 وحتى لحظة كتابة هذه السطور، أن ملف اللاجئين بقي من مسائل الخلافات الجوهرية بين الجانبين، وتأجل التفاوض حوله لمفاوضات الحل النهائي.وعليه شكلت مسألة اللاجئين إحدى النقاط الجوهرية الأساسية في مفاوضات الوضع النهائي إلى جانب المستوطنات، والمياه، والقدس، والحدود، والأمن، والدولة، مما يؤكد مدى مركزيتها، وأهميتها وكبر حجمها، وغدت تشكل قضية أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني. وإذا كان للفلسطينيين موقفهم الواضح والثابت من مسألة اللاجئين المتمثل بالتمسك بحق العودة لديارهم، مستندين في ذلك لحقهم الطبيعي وللشرعية الدولية المتمثلة بقرار الأممالمتحدة رقم 194 الذي أشار إلى حق العودة والتعويض لمن لا يرغب، فإن للإسرائيليين مواقفهم الخاصة بهم إزاءها، وهي مغايرة تماما للمواقف الفلسطينية. ولكن نظراً لاعتراف طرفي الصراع المباشرين، ببعضهم البعض، ودخولهم في مفاوضات مباشرة، والتوصل لاتفاقات حول العديد من قضايا الخلاف، والتوقف عند مسألة اللاجئين، وجعلها على جدول أعمال مفاوضات الوضع النهائي، ضمن توجه لإيجاد تسوية عامة للصراع العربي- الإسرائيلي، فستفرض نفسها عليهما في نهاية المطاف. وعند دراسة البرامج الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية الكبرى، خاصة العمل والليكود وكاديما، التي تحدد سياسات الدولة في حالة فوز أي منها، وتشكيله الحكومة نرى تشابها أقرب ما يكون إلى التطابق في النظرة النهائية لقضية اللاجئين، وإضافة للبرامج الحزبية، ينبغي التنويه للموقف الذي تمثله النخبة الثقافية من الكتاب والصحفيين التي تنطلق مواقفهم من قضية اللاجئين من الأسس التالية: 1- "إسرائيل" دولة يهودية، ولا مساومة على طابعها وهويتها؛ لأن أي إخلال به عبر عودة اللاجئين ستؤدي إما لتقويض هوية الدولة وتحويلها لدولة ثنائية القومية، وبالتالي انتحارها، أو أنه سيهدد نظامها الديمقراطي، إذا جرى إخراج الفلسطينيين العائدين من اللعبة الديمقراطية الداخلية للحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، وهو ما يمكن أن يفضي إلى نظام "أبارتهايد" جديد، وهو ما لا تريده الدولة. 2- لم يذهب هؤلاء المثقفون في مراجعتهم لجذور الصراع مع الفلسطينيين إلى نهاياته، لأنه سيعني بالضرورة التشكيك بأخلاقية وشرعية الصهيونية، وبمبررات قيام الدولة، وكل المزاعم عن الوطن القومي، لذلك يراجعون الصراع وكأنه بدأ من لحظة حرب حزيران 1967، واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، لأنه سيعفيهم من الدخول في المحظورات التاريخية التي يمكن أن تشكك بالرواية الصهيونية. 3- ترجم هؤلاء المثقفون مواقفهم عمليا من خلال بيانات وعرائض للرأي العام، جاء فيها أنهم لا يستطيعون الموافقة على عودة اللاجئين داخل الدولة؛ لأن ذلك يعني القضاء عليها، ولأن العودة الشاملة للفلسطينيين تتناقض مع مبدأ حق تقرير المصير للشعب اليهودي.وممن وقع على العريضة كبار المثقفين، ومنهم: أ.ب.يهوشاع، عاموس عوز، دافيد غروسمان، لوبيه إلياف، غليا غولان، نيسيم كلدرون، ياعيل ديان، مناحيم برينكر، مائير شليف، زئيف شترنهل. من مدريد إلى كامب ديفيد أظهر الموقف الفلسطيني خلال اللقاءات التفاوضية حول الوضع النهائي في كامب ديفيد بداية في يوليو 2000، وطابا لاحقاً في ديسمبر 2000، بشكل جلي وللمرة الأولى منذ بداية مرحلة أوسلو درجةً عالية من النقاشات والجدل في أوساط المثقفين والسياسيين الإسرائيليين حول الحلول المطروحة لمعالجة قضية اللاجئين، وبالتحديد قضية حق العودة.وتراوحت النقاشات ما بين الرفض الكامل والمطلق لعودة اللاجئين، وبين الاعتراف الخجول بعودة عدد قليل منهم يكاد لا يذكر مقارنة بعددهم الإجمالي، حيث هدفت مؤشرات الاعتراف الخجول هذه للحد من فاعليته، وربطه بكثير من القيود والعقبات، فيما تتضمن جميع تلك الأطروحات الكثير من المضامين التمييزية العنصرية الصرفة، كالحفاظ على أغلبية يهودية ساحقة في "إسرائيل"، مع أقلية هامشية ومحدودة حتى الآن تعترف وتدعم تطبيق حق العودة بشكل كامل، لكن صوتها لم يبرز بعد، ولم تفرض وجهة نظرها ضمن الأطروحات الجماهيرية والنقاش السائد هناك.ولتقديم قراءة واقعية لطبيعة المفاوضات التي جرت حول اللاجئين، بالإمكان الوقوف سريعا على أبرز المحطات الرئيسية التي أخذت القضية منها حيزا هاما، التي التقت كلها بتلاوين نصوصها على مبدأ التخلي عن حق العودة للديار والممتلكات المغتصبة منذ عام 1948، وراعت في مواقفها حدود الموقف الإسرائيلي، ووقفت عنده في سياسة واهمة تقوم على المقايضة بين حق العودة وباقي الحقوق الوطنية، ومن أهم هذه المحطات: مؤتمر مدريد - اتفاق أوسلو - الاتفاقات الثنائية - المفاوضات المتعددة - مفاوضات كامب ديفيد. عموما، فقد تبلور الموقف الإسرائيلي خلال تلك المحطات التفاوضية برفض حق العودة رفضا مطلقا، ووفقا لشهادة أحد المفاوضين الفلسطينيين فقد تشكل ما يشبه إجماعا إسرائيليا حوله، بزعم أن استخدام هذا الحق، يعني تبعات سلبية وكارثية عليها، أهمها: 1- تدمير الدولة العبرية، وإلغاء هويتها وكيانها. 2- سيكون له كبير الأثر على التركيبة السكانية الإسرائيلية، عبر تلاقيهم مع إخوانهم في الداخل، والبالغ عددهم زهاء المليون. 3- تحالفهم مع الفلسطينيين في الضفة والقطاع، والبالغ عددهم ثلاثة ملايين ونيف. 4- دفع تعويضات اللاجئين بالتحفظ، وربطه بتعويضات مساوية ليهود الدول العربية الذين غادروها. تأسيسًا على ما سبق، من الواضح أن الموقف الإسرائيلي الرسمي إزاء قضية اللاجئين، يتمتع بتأييد داخلي واسع، ومن الصعب وضع احتمالات مستقبلية بشأن تغيير جدي في هذا المفهوم إسرائيليا، ذلك أن قيامها على الأراضي التاريخية الفلسطينية، واستقدام مهاجرين من دول العالم بدلا من السكان الأصليين، من شأنه أن يفضي للموقف الرسمي؛ وبالتالي فإن حالة التحسس الشعبي الفلسطيني لمعنى قيام الدولة العبرية، وما شكله ذلك من حالة نكبة فلسطينية من شأنه أن يفضي بدوره لأشكال من الصراع ينال جوهر الأمور. الموقف في المفاوضات النهائية على الصعيد الثنائي، بدأت مفاوضات الوضع النهائي بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بتاريخ 8/11/1999، لمناقشة أكثر القضايا حساسية، والمتمثلة في القدس، واللاجئين، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية، والحدود، والعلاقات والتعاون مع الجيران، وأية قضايا ذات اهتمام مشترك بين الجانبين، وعلى ما يبدو كانت مفاوضات شاقة وشائكة، ولم تتكلل بالنجاح نتيجة التعنت الإسرائيلي في رفضه لعودة اللاجئين.وفي أول جلسة رسمية للمفاوضات، قدم الوفد الفلسطيني ورقة رسمية تطالب بعودة اللاجئين لديارهم وتعويضهم طبقا للقرار 194، وتحميل "إسرائيل" المسئولية التاريخية والسياسية والأخلاقية والقانونية عن نشوء قضيتهم، وتوضح موقف منظمة التحرير من الناحية التاريخية والوضع السياسي الراهن، لكن الجانب الإسرائيلي الذي ترأسه "عوديد عيران" رفض الورقة بشكل مطلق. وبعد عدة جولات تفاوضية عقدت في قاعدة "بولينغ" الجوية بواشنطن، وما تبعها من مفاوضات بمدينة إيلات على سواحل البحر الأحمر، بدأت معالم الحلول الإسرائيلية المطروحة لقضايا الحل النهائي تتضح، وتتبلور حول تصفية قضية اللاجئين بإلغاء حق العودة، والتركيز على التوطين والعودة لأراضي الدولة الفلسطينية. وجاء الموقف الإسرائيلي واضحا من خلال تصريحات "إيهود باراك" رئيس الوزراء، الذي عرف بصاحب اللاءات الخمس، ومنها لا لعودة اللاجئين، حيث قال خلال زيارته للولايات المتحدة: إن الإسرائيليين لم يطرحوا على جدول أعمال المفاوضات مع العرب مسألة اللاجئين، وأوحى أن هذا الأمر سيتم مناقشته داخل المفاوضات المتعددة، وهي اللجنة المعنية بتأهيلهم ودمجهم في المجتمعات المضيفة، ولا تتعاطى في موضوع حق العودة، مطالبا الفلسطينيين بالتخلص من الأفكار التي تراودهم في مطالبة "إسرائيل" بتنفيذ القرار 194 على المساحة القليلة التي ستبقى لها بعد تقديم التنازلات الإقليمية. وبالتزامن مع أطروحات "باراك"، أكدت مصادر صحفية مقربة من صنع القرار أن "إسرائيل" لن تتفاوض حول حق اللاجئين في العودة إليها، بل ستتفاوض على أن يكون هذا الاستيعاب محدودا، مقترحة قبولها بعودة عدد محدود منهم في إطار جمع شمل العائلات، على ألا يزيد عددهم عن عدد المستوطنين الذي سيعيشون على أرض الدولة الفلسطينية. ويتضح من العرض السابق أن الحكومة الإسرائيلية رفضت التعامل مع اللاجئين على قاعدة القرار 194، والاعتراف بحق العودة للاجئين لأراضي ال48 التي طردوا منها، ولن تجد في جعبتها وبرامجها السياسية سوى التوطين في الدول العربية التي يقيمون فيها، وعودة محدودة لأراضي الدولة الفلسطينية، وقد تسبب هذا الموقف المتعنت في فشل كافة الجولات التفاوضية بين الطرفين، وجعلها عقيمة لم ولن تسفر عن أية نتائج إيجابية.وقد تطرق الموقف الإسرائيلي في كامب ديفيد لخيارات ثلاثة تعرض على اللاجئين، وهي: 1- الاستقرار في الدولة الفلسطينية القادمة. 2- البقاء حيث هم. 3- الهجرة لبلدان تفتح لهم أبوابها طوعا مثل كندا وأستراليا والنرويج. وتلخص الالتزام الوحيد الذي تضمنه عرض "باراك" في حرية استقرار اللاجئين في الكيان الذي سيطلق عليه اسم الدولة الفلسطينية إذا شاءوا، لكن العديد من الدلالات تشير إلى أنه لم ينوِ يوما حتى السماح بهذا. مكاسب إسرائيلية تفاوضية أفرزت مسيرة المفاوضات على قضية اللاجئين مكاسب إسرائيلية لم تحققها طوال ستين عاما، ومنها: قدرتها على إلزام وثائق التسوية الجارية بإرجاء البحث الفعلي في القضية لمفاوضات الحل النهائي، وأزاحت المرجعية المتمثلة في قرارات الشرعية الدولية، وقد تضمنت هذه الوثائق إشارة للقرار 242، الذي ينص على "تسوية عادلة لقضية اللاجئين"، لكن التفسير الإسرائيلي للقرار مغاير للتفسير العربي الفلسطيني.