"النواخذة" هم ربابنة وأصحاب السفن الشراعية الكبيرة التي كانت تمخر المحيط الهندي من الخليج العربي الى الهند شرقاً وإلى سواحل افريقيا غرباً. ومن خلال رصد لتفاصيل الحياة اليومية لثلاثة أجيال متتابعة في أسرة شيخ النواخذة، يعيدنا كتاب فوزية الشويس السالم الى بئر الماضي العميقة، ويدخلنا - معتمداً أسطورة النواخذة - الى مناطق جغرافية وإنسانية متنوعة، شكلت مجتمعة صورة واضحة المعالم لحياة إنسان الخليج العربي البسيط، قبل أن يداهمها البترول. كتاب "النواخذة" دار المدى مقسم الى أربعة فصول: "النواخذة وجسد الملح"، "النواخذة وجسد الرق"، "النواخذة وجسد الصحراء"، "النواخذة وجسد السفينة". وهذا التقسيم الرباعي اعتبره إدوار الخراط - في تقديمه له - مفروضاً إذ قال: "إنما هو في تقديري تقسيم إجرائي مفروض وليس عضوياً حقاً، فإن النص على طول الفصول الأربعة، يظل نصاً منثالاً واحداً تتابع فيه حكايات ومشاهد تبدو متوقعة ومرسومة". ولو قصرنا النظر مثلاً على حكاية أسرة "ابراهيم العود" - شيخ النواخذة - في هذا الكتاب، فإننا سنجد أن تقسيمه الى أربعة فصول مفروض، إذ إن كل فصل يحكي جيلاً أو مرحلة من مراحل تاريخ هذه الأسرة المتصل والمترابط بصلة الدم الأب - الابن - الحفيد، ولكن لو تطلعنا الى صورة متكاملة ومتنوعة لحياة حقيقية، هي حياة إنسان الخليج العربي البسيط قبل ظهور البترول، فنجد أن هذا التقسيم الرباعي للكتاب دوري وحتمي، حين أن كل فصل من فصوله يرتاد ركناً من أركانها سواء الواقعة في محيطها الجغرافي مثل المدن والبادية وأمواج الخليج، أو البعيدة عنها جغرافياً ومرتبطة بها بصلات النسب أو التجارة مثل افريقيا والهند. تلك الأركان تظهر في الكتاب مغلفة بروح شاعرية قال عنها ادوار الخراط "التمويه الشاعري للهيكل التقليدي الراسخ الذي يذكّر بروح ملحمية، يتأتى من تقنيات شكلية تتدرج بين "الاوتوماتوبية" المحاكاة الكتابية للأصوات واعتماد الحوارية، وراهنية السرد، والتقطيع الشعري والنجوى الرومانسية النزعة، والمشهدية السينمائية". وهي مفعمة بالأسطورة الشعبية التي تفسر كل الأحداث حسب قوانينها العجيبة، ومستقرة على ايقاعات تاريخ أسرة شيخ النواخذة ابراهيم العود. في الفصل الأول النواخذة وجسد الملح يظهر ركن المدينة من ناحية الميناء "قلبها النابض" وفي لحظة مزدحمة وفارقة هي لحظة وصول السفن وتفريغها من البضائع ثم إعدادها لرحلة جديدة. البحارة يستريحون أو بالأحرى يتهيأون لخوض مغامرة أخرى في ظلمات البحار، ونجارو السفن منهمكون في تجديدها، وأطفال المدينة ونساؤها حائرون بين نقل البضائع وتلبية حاجات البحارة والنجارين المعدات البحرية تملأ الشاطئ، وتربك الحركة. في فصل "النواخذة وجسد الرق" تدخل بنا فوزية شويش السالم ركناً آخر من أركان الصورة، ركناً قصياً وبعيد الصلة جغرافياًَ، ولكنه - في الآن ذاته - هو قريب إنسانياً، قرب وفر له الدخول بيسر في صميم التركيبة الانسانية العرقية لحياة الخليج العربي قبل ظهور البترول، ألا وهو أدغال افريقيا التي جلب منها "النواخذة" الانسان الافريقي عن طريق تجارة الرقيق - ليمتزج في نسيج الحياة على الخليج العربي، ويصير واحداً من أهلها. فصل "النواخذة وجسد الصحراء" يأخذنا الى منطقة الغموض والوضوح، العزلة والضجيج، النهارات الشاسعة الرنانة بتكسر أشعة الشمس وانعكاساتها، منطقة هي أصل الشجاعة والكرم، وموطن العرافين والتعاويذ، وملك الإنسان المغامر، المتجهم، أحياناً، والمرتحل دائماً ألا وهي الصحراء: "الصمت في الصحراء لا يشبه أي صمت، العتمة والصمت مزيج منصهر، غور عميق بلا حدود، بلا حدود كأنه السير في نفق، أو المضي المنسحب في دوران دوامة". أما فصل "النواخذة وجسد السفينة" فيصل بنا الى مركز الصورة وبؤرتها، ألا وهو السفينة بأشرعتها، وصواريها وبحارتها، ليس في أوج نجاحها في خوض غمار البحار والمحيطات فحسب، ولكن - أيضاً - في لحظة اهتزازها وانكسارها وتلاشيها من الوجود نهائياً، مستقرة في أعماق البحار، لتطوى - الى الأبد - صفحة حافلة وناصعة من حياة إنسان الخليج العربي قبل ظهور البترول، لتبدأ صفحة جديدة لا تقل صخباً: "ينتهي زمنها.. يحل زمن السرعة ويخرس موال السفر العظيم. تنتهي المقامرة والمغامرة، صبر الرجال، عظمة الاحتمال وعبقرية النواخذة". على خلفية هذه الصورة المكتملة لحياة إنسان الخليج العربي قبل ظهور البترول، يأتي تاريخ أسرة ابراهيم العود شيخ النواخذة، ضابطاً لإيقاعها ومرتبطاً برحلة صعودها واندثارها من خلال انصاره في كل أركانها يأتي حاملاً ومجسداً اسطورتها وملامحها وأهازيجها. ابراهيم العود يتزوج من "جنة" التي آتى بها من أدغال افريقيا في احد أسفاره المتكررة، لتنجب له "عبدالله" الذي يحافظ على مهنة أبيه ويدخل ركن الصحراء من خلال زواجه من "نايفة" ابنة البادية، التي تنجب بدورها "شاهين" و"سلطان"، شاهين لأنه ظل وفياًَ للماضي، وأمعن في تعلم فنون الإبحار، وامتهن النوخذة مهنة أسلافه، فقد كان لا بد أن يموت غرقاً ليضع نهاية حتمية لعصر النوخذة، ويفسح المجال لعصر جديد بطله أخوه "سلطان" الذي لأنه عرف أن المستقبل يعد بحياة ليس للنواخذة فيها مكان، وترك مهنة أجداده للعمل بالتجارة، فقد نجح وظل باقياً، بل إنه اصبح مهندس الحياة: "أنا لست رجل بحر طوال حياتي لم أحبه، لم أشعر به مثل ما تشعر به أنت.. مثل ما تعشقه، أنا ابن المدينة.. بنظامها.. بهدوئها بالأمن.. بالسكينة.. بالاصدقاء.. بالدواوين.. بالشوارع". ومن خلال هذه القصة أو التاريخ تظهر العادات والتقاليد والمعتقدات التي عرفها إنسان الخليج العربي قبل ظهور البترول، فهذه "هيا" ابنة ابراهيم العود حينما تعلن حبها لسعود البحار الصغير يتم عزلها تماماً، وتتحول بفعل العزلة وقسوتها الى عرافة تتنبأ بالأحداث قبل وقوعها حتى موتها: "بموت هيا.. يموت الشاهد الوحيد الباقي على عصر بدأت تختفي علاماته"، وها هي الأحداث تفسر حسب قوانين الخرافة الشعبية، فعندما تغرق السفينة، يتم إرجاع ذلك الغرق الى أن امرأة عاقراً تجولت فيها عند رسوها في الميناء، وها هي معاناة ابنة البادية حين ترفض الزواج من ابن عمها، وها هي التعويذة العلاج الناجع لكل الأمراض تظهر بجانب سمات الشجاعة والكرم، والموت الأساسي وربما الوحيد على شظف العيش وشقاء العمل وغدر الامواج.