ألقى إجتماع جنيف بين رئيس البرلمان السوداني الامين العام ل"المؤتمر الوطني" الحاكم الدكتور حسن الترابي ورئيس الوزراء السابق زعيم حزب الامة السيد الصادق المهدي حجراً في بحر السياسة السودانية الذي سيطر عليه الركود أخيراً وأثار ردود فعل وتفاعلات وتغييرات في التحالفات القائمة على كل صعد الساحة السياسية. وعلى رغم أن تفاصيل اتفاق الترابي والمهدي لم تتضح بعد إلا أنها أحيت الحديث عن خطة سياسية عمرها أربعون عاماً لحكم السودان في تحالف إستراتيجي بين حزب الأمة و"الجبهة الاسلامية"، وايقظت مخاوف أطراف داخلية كانت تخشى من قيام نظام ملكي في الماضي وباتت تخشى من نظام رئاسي يثبت الحكم في يد حزب الامة لوقت طويل. ولم يقتصر اهتزاز الصورة على القوى الرئيسية بل امتدت الآثار الى الاطراف الجنوبية والاطراف المتحالفة مع الحكومة التي أبدت امتعاضاً شديداً كانت تجلياته الأخيرة دعوة الى اعادة توحيد الحزب الاتحادي الديموقراطي الخصم التقليدي لحزب الامة ومنافسه الرئيسي على حكم السودان في أي نظام ديموقراطي. وانتهى التصلب الذي كان ملحوظاً في مواقف الحكومة والمعارضة في الاشهر الاخيرة الى منافسة أطراف على التفاوض سراً ورفض سريع وقاطع من التيارات اليسارية عموما وامتعاض من بعض الاسلاميين في الداخل. ويؤكد عدد من المراقبين المعنيين بالقضية السودانية استمزجت "الحياة" وجهات نظرهم في مآلات الحوار السوداني الحالي الذي يبدو في الظاهر بعيداً عن المؤثرات الخارجية، أن هناك بعداً خارجياً قوياً يتلخص في صمت أميركي غير معتاد وانفتاح خارجي متسارع للحكومة على الدول المجاورة واستعداد مفاجئ من هذه الدول لاستقبال الحكومة السودانية التي وصمت لوقت طويل بصفات "دعم الارهاب" و"تهديد الاستقرار في المنطقة". وبدت الخريطة السياسية للاعبين الاساسيين في النزاع السوداني على النحو الآتي: حزب الامة أظهر حزب الامة تماسكاً شديداً ازاء المفاجأة التي فجرها زعيمه بلقاء الترابي ولم تصدر أي تصريحات معارضة لفكرة الحوار السياسي والحل السلمي التي طرحها المهدي بعد حرب، بل اندفع القياديون في الحزب في الداخل والخارج الى تأييد التوجه في موقف بدا وكأن المبادرة كانت تعبيراً عن تطلعات أنصار المهدي. وأكد الحزب أنه حصل على دعم كامل لموقفه من التجمع المعارض في الداخل وقوى وتنظيمات معارضة أخرى تعمل من الخرطوم أو من خارج مظلة "التجمع الوطني الديموقراطي". قرنق التزم زعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان" العقيد جون قرنق ومعاونوه صمتاً مطبقاً إزاء الخطوة، فهو من جهة لا يرى الحرج الذي تراه أطراف المعارضة في مجرد لقاء الحكومة، إذ انه في حال تفاوض مستمر مع "الحكومة القائمة في الخرطوم أياً كانت"، كما يحلو له أن يكرر دائما. لكن صمت قرنق في هذا الامر يذهب الى أبعد من ذلك، فهو أقام تحالفا متينا مع حزب الامة بعد طول خصام لا يريد له ان ينفض من دون سبب وجيه. ويريد قرنق ان يستمع الى المهدي أولاً وهو أمر ينتظر أن يتم اليوم أو غداً في كمبالا. ويرى المحللون أن قرنق يعتبر أصلاً أن اللقاء الشمالي - الشمالي حتمي وتقتضيه مصالح الشماليين خصوصاً في وجه ما يعتبره مجرد تلويح بالانفصال، ويراه الشماليون "تمزيقاً للسودان وتدويلا لقضيته". ويذهب بعض المراقبين الى ابعد من ذلك، معتبرين أن قرنق لا يثق أصلاً بالاحزاب الشمالية وأن سياسته تجاهها تقوم على استغلالها لاطول فترة ممكنة. ويرون أيضاً أن ذلك أحد أسباب صمته لجهة أنه وضع نفسه في خانة المستفيد من شقاقها واتفاقها. وامتنع قرنق عن مجرد الاشارة الى لقاء جنيف في مناسبة كانت مهمة مرت قبل يومين وهي الذكرى ال16 لبدء حركته الحرب المستمرة في الجنوب. الخرطوم وتبدو الخرطوم في أفضل اوضاعها التفاوضية لأسباب متعلقة بأحكام قبضتها على الحكم وفشل معارضيها في اسقاطها او حتى تهديد حكمها فعلياً خلال عشرة أعوام من العمل المعارض النشط، وتبني موقفها من الحوار مع المعارضة وتحسن علاقاتها الاقليمية وانشغال خصمها الاميركي عنها وعن المنطقة كلها، وتفاؤلها بانفراج اقتصادي قريب مع بدء تصدير النفط نهاية الشهر المقبل او على الاقل الاكتفاء الذاتي من السلعة الاستراتيجية المهمة لبلد مترامي الاطراف. لكن الخرطوم تعرف أيضا أنها لن تستطيع الاستمرار في هذا الوضع لمدة طويلة بسبب عدم استقرار العلاقات الدولية ومخاطر الانهيار الاقتصادي ومهددات وحدة البلاد. ويضاف الى ذلك نزاع ظهر أخيرا بين اطراف الحكم، اذ برز أول تهديد جدي لزعامة الترابي عند تقديم ما عرف ب"مذكرة العشرة". وتضافرت هذه الاسباب مجتمعة في جعل الحكومة في وضع نفسي موات ووضع تفاوضي مثالي، خصوصاً إذا ضمنت تحالفا أو حتى علاقة حسنة مع المهدي تمكنها عن ابحار مريح في المرحلة المقبلة. ويذهب انصار نظرية المؤامرة الى ابعد من ذلك بحكم العمق السياسي للمهدي والترابي ورصيدهما الضخم من التجارب ويقولون إن في الامر صفقة تقيم نظاماً رئاسيا على النهج الفرنسي دعا اليه المهدي من قبل يضمن فيه الأخير الرئاسة ويضمن فيه الترابي الحكومة. وقررت الحكومة السودانية والحزب الحاكم قبول مبادرة الترابي والمهدي وزادت على ذلك بتشكيل آلية للحوار على ثلاث مسارات مع المهدي وقرنق وزعيم "الحزب الاتحادي الديموقراطي" رئيس التجمع المعارض السيد محمد عثمان الميرغني، وأبقت الباب مفتوحاً لبقية القوى حتى تدخل في الحوار كملحقات متى أرادت. "الاتحادي" ولجأ الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي بدا متفاجئا باتفاق جنيف بسرعة الى علاقته التاريخية مع مصر وتأكيد الدور المصري في أي حل للقضية السودانية. وأبدى الحزب خلال الايام التي تلت لقاء جنيف مواقف مختلفة صدرت عن مسؤولين فيه في اوقات مختلفة ولوسائل إعلام مختلفة. وحوت هذه المواقف رسائل مختلفة أهمها أن الحزب لن يفاوض وانه متمسك بوحدة "التجمع" الذي يتولى رئاسته رئيس الحزب وانتقادات للحوار بين طرفين باعتبار أن ذلك لن يحل قضية السودان. لكن مسؤولين آخرين في الحزب تحدثوا عن أن "الحوار خيار يفرضه الواقع" واعلان ان قيادة الحزب اقرت خيار الحوار وأن التشاور مع المهدي مستمر وأن الميرغني كان على علم بلقاء جنيف. في غضون ذلك ألغى الرئيس عمر البشير لقاء كان مقرراً بين نائبه السيد علي عثمان محمد طه والميرغني في القاهرة "لأن النبأ تسرب الى وسائل الاعلام"، ما يشير الى أن السرية المطلقة شرط أساسي لمثل هذا اللقاء. وتشير أوساط عدة الى أن المساعي لعقد لقاء جديد بين الحكومة والحزب الاتحادي مستمرة عبر قنوات جديدة. اليسار و"التجمع" وعاجلت القوى اليسارية وقوى أخرى في التجمع مثل "قوات التحالف السودانية" وتجمعي البجا والتحالف الفيديرالي، وهما جماعتان تعتمدان على تأييد قبلي اقليمي، الى اتخاذ مواقف رافضة للحوار الذي رأت بوضوح أنها خاسرة فيه مرتين: من خلال احتمال تفكك مظلة "التجمع" التي تستظل بها، كما انها لن تعثر على دور في خريطة المستقبل. وقاد الحزب الشيوعي حملة انتقاد للمهدي حتى اضطر زعيم حزب الامة الى التحدث عن "مزايدات وملاسنات" من قياديين فيه.